المسألة الثالثة : اختلفوا في لإبراهيم أن أباه عدو لله . فقال بعضهم : بالإصرار والموت . وقال بعضهم : بالإصرار وحده . وقال آخرون : لا يبعد أن الله تعالى عرفه ذلك بالوحي ، وعند ذلك تبرأ منه . فكان تعالى يقول : لما تبين السبب الذي به تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله تبرأ منه ، فكونوا كذلك ، لأني أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله :( اتبع ملة إبراهيم ) ( النحل : 123 ) .
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال إبراهيم في هذه الواقعة . قال :( إن إبراهيم لأواه حليم ) واعلم أن اشتقاق الأواه من قول الرجل عند شدة حزنه أوه ، والسبب فيه أن عند الحزن يختنق الروح القلبي في داخل القلب ويشتد حرقه ، فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق من القلب ليخفف بعض ما به ، هذا هو الأصل في اشتقاق هذا اللفظ ، وللمفسرين فيه عبارات ، روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الأواه : الخاشع المتضرع " وعن عمر : أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأواه ، فقال : "الدعاء" ويروى زينب تكلمت عند الرسول - عليه الصلاة والسلام - بما يغير لونه ، فأنكر عمر ، فقال عليه الصلاة والسلام : "دعها فإنها أواهة" قيل يا رسول الله وما الأواهة ؟ قال : "الداعية الخاشعة المتضرعة" وقيل : أن إبراهيم - عليه السلام - أواها ، كلما ذكر [ ص: 168 ] لنفسه تقصيرا أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوه إشفاقا من ذلك واستعظاما له . وعن معنى كون - رضي الله عنهما - : الأواه ، المؤمن بالخشية . وأما وصفه بأنه حليم فهو معلوم . واعلم أنه تعالى إنما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام ؛ لأنه تعالى وصفه بشدة الرقة والشفقة والخوف والوجل ، ومن كان كذلك فإنه تعظم رقته على أبيه وأولاده ، فبين تعالى أنه مع هذه العادة تبرأ من أبيه وغلظ قلبه عليه ، لما ظهر له إصراره على الكفر ، فأنتم بهذا المعنى أولى ، وكذلك وصفه أيضا بأنه حليم ، لأن أحد أسباب الحلم رقة القلب وشدة العطف ; لأن المرء إذا كان حاله هكذا اشتد حلمه عند الغضب . ابن عباس