في هذه السنة قتل عبيد الله بن الحر الجعفي ، وكان من خيار قومه صلاحا وفضلا واجتهادا ، فلما قتل عثمان ووقعت الحرب بين علي ومعاوية قصد معاوية ، فكان معه [ ص: 347 ] لمحبته عثمان ، وشهد معه صفين هو ومالك بن مسمع ، وأقام عبيد الله عند معاوية . وكان له زوجة بالكوفة ، فلما طالت غيبته زوجها أخوها رجلا يقال له عكرمة بن الخبيص ، وبلغ ذلك عبيد الله ، فأقبل من الشام ، فخاصم عكرمة إلى علي ، فقال له : ظاهرت علينا عدونا فغلت . فقال له : أيمنعني ذلك من عدلك ؟ قال : لا ، فقص عليه قصته ، فرد عليه امرأته ، وكانت حبلى ، فوضعها عند من يثق إليه حتى وضعت ، فألحق الولد بعكرمة ، ودفع المرأة إلى عبيد الله ، وعاد إلى الشام فأقام به حتى قتل علي ، فلما قتل أقبل إلى الكوفة فأتى إخوانه فقال : ما أرى أحدا ينفعه اعتزاله ، كنا بالشام فكان من أمر معاوية كيت وكيت ، فقالوا : وكان من أمر علي كيت وكيت ، وكانوا يلتقون بذلك .
فلما مات معاوية وقتل الحسين بن علي لم يكن عبيد الله فيمن حضر قتله ، يغيب عن ذلك تعمدا ، فلما قتل جعل ابن زياد يتفقد الأشراف من أهل الكوفة ، فلم ير عبيد الله بن الحر ، ثم جاءه بعد أيام حتى دخل عليه فقال له : أين كنت يا ابن الحر ؟ قال : كنت مريضا . قال : مريض القلب أم مريض البدن ؟ فقال : أما قلبي فلم يمرض ، وأما بدني فقد من الله علي بالعافية . قال ابن زياد : كذبت ، ولكنك كنت مع عدونا . فقال : لو كنت معه لرأى مكاني .
وغفل عنه ابن زياد ، فخرج فركب فرسه ، ثم طلبه ابن زياد فقالوا : ركب الساعة . فقال : علي به . فأحضر الشرط خلفه ، فقالوا : أجب الأمير . فقال : أبلغوه عني أني لا آتيه طائعا أبدا . ثم أجرى فرسه ، وأتى منزل أحمد بن زياد الطائي ، فاجتمع إليه أصحابه ، ثم خرج حتى أتى كربلاء ، فنظر إلى مصارع الحسين ومن قتل معه ، فاستغفر لهم ، ثم مضى إلى المدائن وقال في ذلك :
يقول أمير غادر وابن غادر : ألا كنت قاتلت الحسين بن فاطمه ونفسي على خذلانه واعتزاله
وبيعة هذا الناكث العهد لائمه فيا ندمي أن لا أكون نصرته
ألا كل نفس لا تشدد نادمه وإني لأني لم أكن من حماته
لذو حسرة أن لا تفارق لازمه [ ص: 348 ] سقى الله أرواح الذين تبادروا
إلى نصره سقيا من الغيث دائمه وقفت على أجداثهم ومحالهم
فكاد الحشا ينقض والعين ساجمه لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى
سراعا إلى الهيجا حماة خضارمه تأسوا على نصر ابن بنت نبيهم
بأسيافهم آساد غيل ضراغمه فإن يقتلوا في كل نفس بقية
على الأرض قد أضحت لذلك واجمه وما إن رأى الراءون أفضل منهم
لدى الموت سادات وزهرا قماقمه يقتلهم ظلما ويرجو ودادنا
فدع خطة ليست لنا بملائمه لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم
فكم ناقم منا عليكم وناقمه أهم مرارا أن أسير بجحفل إلى فئة
زاغت عن الحق ظالمه فكفوا وإلا زدتكم في كتائب أشد عليكم من زحوف الديالمه
وأقام ابن الحر بمنزله على شاطئ الفرات إلى أن مات يزيد ووقعت الفتنة ، فقال : ما أرى قريشا تنصف ، أين أبناء الحرائر ؟ فأتاه كل خليع ، ثم خرج إلى المدائن فلم يدع مالا قدم به للسلطان إلا أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ، ويكتب لصاحب المال بذلك ، ثم جعل يتقصى الكور على مثل ذلك ، إلا أنه لم يتعرض لمال أحد ولا ذمة . فلم يزل كذلك حتى ظهر المختار وسمع ما يعمل في السواد ، فأخذ امرأته فحبسها ، فأقبل عبيد الله في أصحابه إلى الكوفة ، فكسر باب السجن وأخرجها ، وأخرج كل امرأة فيه ، وقال في ذلك :
ألم تعلمي يا أم توبة أنني أنا الفارس الحامي حقائق مذحج
[ ص: 349 ] وأني صبحت السجن في سورة الضحى بكل فتى حامي الذمار مدجج
فما إن برحنا السجن حتى بدا لنا جبين كقرن الشمس غير مشنج
وخد أسيل عن فتاة حبيبة إلينا سقاها كل دان مشجج
فما العيش إلا أن أزورك آمنا كعادتنا من قبل حربي ومخرجي
وما زلت محبوسا لحبسك واجما وإني بما تلقين من بعده شجي
وهي طويلة .
وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه ، فأحرقت بهمذان داره ، ونهبوا ضيعته ، فسار عبيد الله إلى ضياع همذان ، فنهبها جميعها ، وكان يأتي المدائن فيمر بعمال جوخى ، فيأخذ ما معهم من المال ، ثم يميل إلى الجبل ، فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار .
وقيل : إنه بايع المختار بعد امتناع ، وأراد المختار أن يسطو به فامتنع لأجل . ثم سار مع إبراهيم بن الأشتر إلى ابن الأشتر الموصل ، ولم يشهد معه قتال ابن زياد ، أظهر المرض . ثم فارق وأقبل في ثلاثمائة إلى الأنبار ، فأغار عليها وأخذ ما في بيت مالها . فلما فعل ذلك أمر ابن الأشتر المختار بهدم داره وأخذ امرأته ، ففعل ما تقدم ذكره . وحضر مع مصعب قتال المختار وقتله ، فلما قتل المختار قال الناس لمصعب في ولايته الثانية : إنا لا نأمن أن يثب ابن الحر بالسواد كما كان يفعل بابن زياد والمختار ، فحبسه ، فقال :
فمن مبلغ الفتيان أن أخاهم أتى دونه باب شديد وحاجبه
بمنزلة ما كان يرضى بمثلها إذا قام عنته كبول تجاذبه
على الساق فوق الكعب أسود صامت شديد يداني خطوه ويقاربه
وما كان ذا من عظم جرم جرمته ولكن سعى الساعي بما هو كاذبه
[ ص: 350 ] وقد كان في الأرض العريضة مسلك وأي امرئ ضاقت عليه مذاهبه
بأي بلاء أم بأية نعمة تقدم قبلي مسلم والمهلب
؟
يعني مسلم بن عمرو والد قتيبة ، . والمهلب بن أبي صفرة
وكلم عبيد الله قوما من وجوه مذحج ليشفعوا له إلى مصعب ، وأرسل إلى فتيان مذحج وقال : البسوا السلاح واستروه ، فإن شفعهم مصعب فلا تعترضوا لأحد ، وإن خرجوا ولم يشفعهم فاقصدوا السجن ، فإني سأعينكم من داخل .
فلما شفع أولئك النفر فيه شفعهم مصعب وأطلقه ، فأتى منزله وأتاه الناس يهنئونه ، فقال لهم : إن هذا الأمر لا يصلح إلا بمثل الخلفاء الماضين الأربعة ، ولم نر لهم فينا شبيها فنلقي إليه أزمتنا ، فإن كان من عز بز فعلام نعقد في أعناقنا بيعة ، وليسوا بأشجع منا لقاء ولا أعظم مناعة ؟ وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ، وكلهم عاص مخالف ، قوي الدنيا ضعيف الآخرة ، فعلام تستحل حرمتنا ونحن أصحاب لا طاعة لمخلوق في معصية الله - تعالى - النخيلة والقادسية وجلولاء ونهاوند ؟ نلقى الأسنة بنحورنا ، والسيوف بجباهنا ، ثم لا يعرف حقنا وفضلنا ؟ فقاتلوا عن حريمكم ، فإني قد قلبت ظهر المجن ، وأظهرت لهم العداوة ، ولا قوة إلا بالله . وخرج عن الكوفة وحاربهم وأغار .
فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ المرادي ، فعرض عليه خراج بادوريا وغيرها ، ويدخل في الطاعة ، فلم يجب إلى ذلك ، فبعث إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي فقاتله ، فهزمه عبيد الله وضربه على وجهه ، فبعث إليه أيضا حريث بن يزيد ، فقتله عبيد الله ، فبعث إليه مصعب الحجاج بن جارية الخثعمي ومسلم بن عمرو ، فلقياه بنهر صرصر ، فقاتلهما فهزمهما ، فأرسل إليه مصعب يدعوه إلى الأمان والصلة ، وأن يوليه أي بلد شاء ، فلم يقبل ، وأتى نرسى ففر دهقانها بمال الفلوجة ، فتبعه ابن الحر حتى مر بعين تمر وعليها بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني ، فالتجأ إليهم الدهقان ، فخرجوا إلى عبيد الله فقاتلوه ، ووافاهم الحجاج بن جارية الخثعمي فحمل على عبيد الله ، فأسره عبيد الله وأسر أيضا بسطام بن مصقلة وناسا كثيرا ، وبعث ناسا من أصحابه فأخذوا المال الذي مع الدهقان ، وأطلق الأسرى .
[ ص: 351 ] ثم إن عبيد الله أتى تكريت ، فأقام يجبي الخراج ، فبعث إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي ، والجون بن كعب الهمداني ، في ألف ، وأمدهم المهلب بيزيد بن المغفل في خمسمائة ، فقال لعبيد الله رجل من أصحابه : قد أتاك جمع كثير فلا تقاتلهم . فقال :
يخوفني بالقتل قومي وإنما أموت إذا جاء الكتاب المؤجل
لعل القنا تدني بأطرافها الغنى فنحيا كراما أو نكر فنقتل
ألم تر أن الفقر يزري بأهله وأن الغنى فيه العلى والتجمل
وإنك إلا تركب الهول لا تنل من المال ما يرضي الصديق ويفضل
وقاتلهم عبيد الله يومين وهو في ثلاثمائة ، ولما كان عند المساء تحاجزوا ، وخرج عبيد الله من تكريت وقال لأصحابه : إني سائر بكم إلى فتجهزوا ، وقال : إني خائف أن أموت ولم أذعر عبد الملك بن مروان مصعبا وأصحابه .
وسار نحو الكوفة فبلغ كسكر ، فأخذ بيت مالها ، ثم أتى الكوفة فنزل بحمام جرير ، فبعث إليه مصعب فقاتله ، ( فخرج إلى عمر بن عبيد الله بن معمر دير الأعور ، فبعث إليه مصعب حجار بن أبجر ، فانهزم حجار ، فشتمه مصعب وضم إليه الجون بن كعب الهمداني ، فقاتلوه ) بأجمعهم ، وكثرت الجراحات في عسكر وعمر بن عبيد الله بن معمر عبيد الله بن الحر ، وعقرت خيولهم ، فانهزم حجار ، ثم رجع فاقتتلوا قتالا شديدا حتى أمسوا ، وخرج ابن الحر من الكوفة .
وكتب مصعب إلى زيد بن الحارث بن رويم الشيباني ، وهو بالمدائن ، يأمره بقتال ابن الحر ، فقدم ابنه حوشبا ، فلقيه بباجسرى ، فهزمه عبيد الله وقتل فيهم ، وأقبل ابن الحر إلى المدائن فتحصنوا منه ، فخرج عبيد الله فوجه إليه الجون بن كعب الهمداني وبشر بن عبيد الله الأسدي ، فنزل الجون بحولايا ، وقدم بشر إلى تامرا فلقي ابن الحر ، فقتله ابن الحر وهزم أصحابه ، ثم لقي الجون بن كعب بحولايا ، فخرج إليه عبد الرحمن بن عبد الله ، فقتله ابن الحر وهزم أصحابه ، وخرج إليه بشير بن عبد الرحمن بن بشير العجلي ، فقاتله بسوراء قتالا شديدا ، فرجع عنه بشير ، وأقام ابن [ ص: 352 ] الحر بالسواد ، يغير ويجبي الخراج .
ثم لحق ، فلما صار إليه أكرمه وأجلسه معه على السرير ، وأعطاه مائة ألف درهم ، وأعطى أصحابه مالا ، فقال له بعبد الملك بن مروان ابن الحر ليوجه معه جندا يقاتل بهم مصعبا ، فقال له : سر بأصحابك ، وادع من قدرت عليه ، وأنا ممدك بالرجال .
فسار بأصحابه نحو الكوفة ، فنزل بقرية إلى جانب الأنبار ، فاستأذنه أصحابه في إتيان الكوفة ، فأذن لهم وأمرهم أن يخبروا أصحابه بقدومه ليخرجوا إليه .
فبلغ ذلك القيسية فأتوا عامل الحارث بن أبي ربيعة ابن الزبير بالكوفة ، فسألوه أن يرسل معهم جيشا يقاتلون عبيد الله ، ويغتنمون الفرصة فيه بتفرق أصحابه ، فبعث معهم جيشا كثيفا ، فساروا فلقوا ابن الحر ، فقال لابن الحر أصحابه : نحن نفر يسير ، وهذا الجيش لا طاقة لنا فيه . فقال : ما كنت لأدعهم . وحمل عليهم وهو يقول :
يا لك يوما فات فيه نهبي وغاب عني ثقتي وصحبي
وقيل في قتله : إنه كان يغشى مصعب بن الزبير بالكوفة ، فرآه يقدم عليه غيره ، فكتب إلى عبد الله بن الزبير قصيدة يعاتب فيها مصعبا ويخوفه مسيره إلى ابن مروان ، يقول فيها :
أبلغ أمير المؤمنين رسالة فلست على رأي قبيح أواربه
[ ص: 353 ] أفي الحق أن أجفى ويجعل مصعب وزيرا له من كنت فيه أحاربه
فكيف وقد آتيتكم حق بيعتي وحقي يلوى عندكم وأطالبه
وأبليتكم مالا يضيع مثله وآسيتكم والأمر صعب مراتبه
فلما استنار الملك وانقادت العدى وأدرك من ملك العراق رغائبه
جفا مصعب عني ولو كان غيره لأصبح فيما بيننا لا أعاتبه
لقد رابني من مصعب أن مصعبا أرى كل ذي غش لنا هو صاحبه
وما أنا إن حلأتموني بوارد على كدر قد غص بالماء شاربه
وما لامرئ إلا الذي الله سائق إليه وما قد خط في الزبر كاتبه
إذا قمت عند الباب أدخل مسلما ويمنعني أن أدخل الباب حاجبه
ألم تر قيسا قيس عيلان برقعت لحاها وباعت نبلها بالمغازل
ألم تر قيسا قيس عيلان أقبلت وسارت إلينا في القنا والقنابل