الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 282 ] ( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين )

( آيات ) أي : علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء ، للسائلين لمن سأل عنهم وعرف قصتهم ، وقيل : آيات على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب ، والذي يظهر أن الآيات الدلالات على صدق الرسول وعلى ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه ، وصدق رؤياه ، وصحة تأويله ، وضبط نفسه وقهرها حتى قام بحق الأمانة ، وحدوث السرور بعد اليأس ، وقيل : المعنى لمن سأل ولمن لم يسأل لقوله : ( سواء للسائلين ) أي : سواء لمن سأل ولمن لم يسأل ، وحسن الحذف لدلالة قوة الكلام عليه كقوله : ( سرابيل تقيكم الحر ) أي : والبرد . وقال ابن عطية : وقوله : ( للسائلين ) يقتضي تحضيضا للناس على تعلم هذه الأنباء ؛ لأنه إنما المراد آيات للناس ، فوصفهم بالسؤال ، إذ كل أحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص ، إذ هي مقر العبر والاتعاظ ، وتقدم لنا ذكر أسماء إخوة يوسف منقولة من خط الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني ، ونقلها من خط الشريف النقيب النسابة أبي البركات محمد بن أسعد الحسيني الجواني محررة بالنقط ، وتوجد في كتب التفسير محرفة مختلفة ، وكان روبيل أكبرهم ، وهو ويهوذا ، وشمعون ، ولاوي ، وزبولون ، ويساخا ، شقائق أمهم ليا بنت ليان بن ناهر بن آزر وهي : بنت خال يعقوب ، وذان ونفتالي ، وكاذ وياشير ، أربعة من سريتين كانتا لليا وأختها راحيل ، فوهبتاهما ليعقوب ، فجمع بينهما ولم يحل الجمع بين الأختين لأحد بعده ، وأسماء السريتين فيما قيل : ليا ، وتلتا ، وتوفيت أم السبعة فتزوج بعدها يعقوب أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين ، وماتت من نفاسه .

وقرأ مجاهد وشبل وأهل مكة وابن كثير : ( آية ) على الإفراد ، والجمهور : ( آيات ) وفي مصحف أبي ( عبرة للسائلين ) مكان ( آية ) ، والضمير في ( قالوا ) عائد على إخوة يوسف ( وأخوه ) هو بنيامين ؛ ولما كانا شقيقين أضافوه إلى يوسف ، واللام في ( ليوسف ) لام الابتداء ، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة ؛ أي : كثرة حبه لهما ثابت لا شبهة فيه ، و ( أحب ) أفعل تفضيل ، وهي مبني من المفعول شذوذا ، ولذلك عدي بـ ( إلى ) لأنه إذا كان ما تعلق به فاعلا من حيث المعنى عدي إليه بـ " إلى " ، وإذا كان مفعولا عدي إليه بـ " في " ، تقول : زيد أحب إلى عمرو من خالد ، فالضمير في " أحب " مفعول من حيث المعنى ، وعمرو هو المحب ، وإذا قلت : زيد أحب إلى عمرو من خالد ، كان الضمير فاعلا وعمرو هو المحبوب ، و " من خالد " في المثال الأول محبوب ، وفي الثاني فاعل .

ولم يبن ( أحب ) لتعديه بـ " من " . وكان بنيامين أصغر من يوسف ، فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما وموت أمهما ، وحب الصغير والشفقة عليه مركوز في فطرة البشر ، وقيل لابنة الحسن : أي بنيك أحب [ ص: 283 ] إليك ؟ قالت : الصغير حتى يكبر ، والغائب حتى يقدم ، والمريض حتى يفيق ، وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير قديما وحديثا ، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدته التي بعث بها إلى أولاده وهو في السجن .


وصغيركم عبد العزيز فإنني أطوي لفرقته جوى لم يصغر     ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا
كفؤا لكم في المنتمى والعنصر     إن البنات الخمس أكفاء معا
والحلي دون جميعها للخنصر     وإذا الفتى بعد الشباب سما له
حب البنين ولا كحب الأصغر

( ونحن عصبة ) جملة حالية أي : تفضلهما علينا في المحبة ، وهما ابنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة ، ونحن جماعة عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقة ، فنحن أحق بزيادة المحبة منهما ، وروى النزال بن سبرة ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( ونحن عصبة ) وقيل : معناه ونحن نجتمع عصبة ، فيكون الخبر محذوفا وهو عامل في ( عصبة ) وانتصب ( عصبة ) على الحال ، وهذا كقول العرب : حكمك مسمطا ، حذف الخبر ، قال المبرد : قال الفرزدق :

يا لهذم حكمك مسمطا



أراد لك حكمك مسمطا ، واستعمل هذا فكثر حتى حذف استخفافا ، لعلم السامع ما يريد القائل كقولك : الهلال والله ؛ أي : هذا الهلال . والمسمط : المرسل غير المردود . وقال ابن الأنباري : هذا كما تقول العرب : إنما العامري عمته ؛ أي : يتعمم عمته ، انتهى . وليس مثله ، لأن ( عصبة ) ليس مصدرا ولا هيئة ، فالأجود أن يكون من باب حكمك مسمطا . وقدره بعضهم : حكمك ثبت مسمطا .

وعن ابن عباس : العصبة ما زاد على العشرة ، وعنه : ما بين العشرة إلى الأربعين ، وعن قتادة : ما فوق العشرة إلى الأربعين ، وعن مجاهد : من عشرة إلى خمسة عشر ، وعن مقاتل : عشرة ، وعن ابن جبير : ستة أو سبعة ، وقيل : ما بين الواحد إلى العشرة ، وقيل : إلى خمسة عشر ، وعن الفراء : عشرة فما زاد ، وعن ابن زيد والزجاج وابن قتيبة : العصبة ثلاثة نفر ، فإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة ، فإذا زادوا فهم عصبة ، ولا يقال لأقل من عشرة عصبة .

والضلال هنا هو الهوى قاله ابن عباس ، أو الخطأ من الرأي قاله ابن زيد ، أو الجور في الفعل قاله ابن كامل ، أو الغلط في أمر الدنيا ، روي أنه بعد إخباره لأبيه بالرؤيا كان يضمه كل ساعة إلى صدره ، وكأن قلبه أيقن بالفراق فلا يكاد يصبر عنه ، والظاهر ( أن اقتلوا يوسف ) من جملة قولهم ، وقيل : هو من قول قوم استشارهم إخوة يوسف فيما يفعل به فقالوا ذلك ، والظاهر أن ( اطرحوه ) هو من قولهم أن يفعلوا به أحد الأمرين ، ويجوز أن تكون ( أو ) للتنويع أي : قال بعض : اقتلوا يوسف ، وبعض : اطرحوه ، وانتصب ( أرضا ) على إسقاط حرف الجر ، قاله الحوفي وابن عطية ؛ أي : في أرض بعيدة من الأرض التي هو فيها قريب من أرض يعقوب ، وقيل : مفعول ثان على تضمين اطرحوه معنى أنزلوه ، كما تقول : أنزلت زيدا الدار ، وقالت فرقة : ظرف ، واختاره الزمخشري ، وتبعه أبو البقاء ، قال الزمخشري : ( أرضا ) منكورة مجهولة بعيدة من العمران ، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الناس ، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة ، وقال ابن عطية : وذلك خطأ بمعنى كونها منصوبة على الظرف . قال : لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهما وهذه ليست كذلك ، بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك ، فزال بذلك إبهامها ، ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض فتبين أنهم أرادوا أرضا بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه ، انتهى ، وهذا الرد صحيح ، لو قلت : جلست دارا بعيدة ، أو قعدت [ ص: 284 ] مكانا بعيدا لم يصح إلا بوساطة " في " ، ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة شعر ، أو مع دخلت على الخلاف في دخلت أهي لازمة أو متعدية . والوجه هنا قيل : الذات ؛ أي : يخل لكم أبوكم ، وقيل : هو استعارة عن شغله بهم ، وصرف مودته إليهم ؛ لأن من أقبل عليك صرف وجهه إليك ، وهذا كقول نعامة حين أحبته أمه لما قتل إخوته وكانت قبل لا تحبه ، قال : الثكل أرامها ؛ أي : عطفها ، والضمير في ( بعده ) عائد على يوسف ، أو قتله ، أو طرحه ، وصلاحهم إما صلاح حالهم عند أبيهم وهو قول مقاتل ، أو صلاحهم بالتوبة والتنصل من هذا الفعل وهذا أظهر ، وهو قول الجمهور منهم الكلبي ، واحتمل ( تكونوا ) أن يكون مجزوما عطفا على مجزوم ، أو منصوبا على إضمار ( أن ) . والقائل : ( لا تقتلوا يوسف ) روبيل قاله قتادة وابن إسحاق ، أو شمعون قاله مجاهد ، أو يهوذا وكان أحلمهم وأحسنهم فيه رأيا وهو الذي قال : ( فلن أبرح الأرض ) قال لهم : القتل عظيم قاله السدي - أوذان أربعة أقوال - وهذا عطف منهم على أخيهم ، لما أراد الله من إنفاذ قضائه وإبقاء على نفسه ، وسبب لنجاتهم من الوقوع في هذه الكبيرة وهو إتلاف النفس بالقتل ، قال الهروي : الغيابة في الجب شبه لحف ، أو طاق في البئر فويق الماء يغيب ما فيه عن العيون . وقال الكلبي : الغيابة كمون في قعر الجب ؛ لأن أسفله واسع ورأسه ضيق ، فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه ، وقال الزمخشري : غوره وهو ما غاب منه عن عين الناظر ، وأظلم من أسفله ، انتهى . منه قيل للقبر : غيابة ، قال المنخل السعدي :


فإن أنا يوما غيبتني غيابتي     فسيروا بسيري في العشيرة والأهل

. وقرأ الجمهور : ( غيابة ) على الإفراد ، و نافع : ( غيابات ) على الجمع ، جعل كل جزء مما يغيب فيه غيابة ، وقرأ ابن هرمز : ( غيابات ) بالتشديد والجمع ، والذي يظهر أنه سمي باسم الفاعل الذي للمبالغة ، فهو وصف في الأصل ، وألحقه أبو علي بالاسم الحائي على فعال نحو ما ذكر سيبويه من الغياد ، قال أبو الفتح : ووجدت من ذلك المبار المبرح والفخار الخزف ، وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون على فعالات كحمامات ، ويجوز أن يكون على فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة ، وكل للمبالغة ، وقرأ الحسن : ( في غيبة ) فاحتمل أن يكون في الأصل مصدرا كالغلبة ، واحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة ، وفي حرف أبي في ( غيبة ) بسكون الياء ، وهي ظلمة الركية ، وقال قتادة في جماعة : الجب بئر بيت المقدس ، وقال وهب : بأرض الأردن ، وقال مقاتل : على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب ، وقيل : بين مدين ومصر ، وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة وأبو رجاء : ( تلتقطه ) بتاء التأنيث ، أنث على المعنى كما قال :


إذا بعض السنين تعرفتنا     كفى الأيتام فقد أبي اليتيم

والسيارة جمع سيار ، وهو الكثير السير في الأرض ، والظاهر أن الجب كان فيه ماء ، ولذلك قالوا : ( يلتقطه بعض السيارة ) وقيل : كان فيه ماء كثير يغرق يوسف ، فنشز حجر من أسفل الجب حتى ثبت يوسف عليه ، وقيل : لم يكن ماء فأخرجه الله فيه حتى قصده الناس . وروي : أنهم رموه بحبل في الجب ، فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا قميصه ورموه ، حينئذ وهموا بعد برضخه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك . ومفعول فاعلين محذوف ؛ أي : فاعلين ما يحصل به غرضكم من التفريق بينه وبين أبيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية