الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما حملكم أحاديث التخيير على ما بعد البلوغ فلا يصح ؛ لخمسة أوجه :

أحدها : أن لفظ الحديث أنه خير غلاما بين أبويه ، وحقيقة الغلام من لم [ ص: 427 ] يبلغ ، فحمله على البالغ إخراج له عن حقيقته إلى مجازه بغير موجب ولا قرينة صارفة .

الثاني : أن البالغ لا حضانة عليه ، فكيف يصح أن يخير ابن أربعين سنة بين أبوين ؟ هذا من الممتنع شرعا وعادة ، فلا يجوز حمل الحديث عليه .

الثالث : أنه لم يفهم أحد من السامعين أنهم تنازعوا في رجل كبير بالغ عاقل ، وأنه خير بين أبويه ، ولا يسبق إلى هذا فهم أحد البتة ، ولو فرض تخييره لكان بين ثلاثة أشياء : الأبوين ، والانفراد بنفسه .

الرابع : أنه لا يعقل في العادة ولا العرف ولا الشرع أن تنازع الأبوان في رجل كبير بالغ عاقل ، كما لا يعقل في الشرع تخيير من هذه حاله بين أبويه .

الخامس : أن في بعض ألفاظ الحديث أن الولد كان صغيرا لم يبلغ ، ذكره النسائي ، وهو حديث رافع بن سنان ، وفيه : فجاء ابن لها صغير لم يبلغ ، فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب هاهنا والأم هاهنا ، ثم خيره .

وأما قولكم : إن بئر أبي عنبة على أميال من المدينة ، فجوابه : مطالبتكم أولا بصحة هذا الحديث ومن ذكره ، وثانيا : بأن مسكن هذه المرأة كان بعيدا من هذه البئر ، وثالثا بأن من له نحو العشر سنين لا يمكنه أن يستقي من البئر المذكور عادة ، وكل هذا مما لا سبيل إليه ، فإن العرب وأهل البوادي يستقي أولادهم الصغار من آبار هي أبعد من ذلك .

وأما تقييدنا له بالسبع ، فلا ريب أن الحديث لا يقتضي ذلك ، ولا هو أمر مجمع عليه ، فإن للمخيرين قولين ، أحدهما : أنه يخير لخمس ، حكاه إسحاق بن راهويه ، ذكره عنه حرب في " مسائله " ، ويحتج لهؤلاء بأن الخمس هي السن التي يصح فيها سماع الصبي ، ويمكن أن يعقل فيها ، وقد قال محمود بن الربيع : [ ص: 428 ] ( عقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في في وأنا ابن خمس سنين ) . والقول الثاني : أنه إنما يخير لسبع ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله ، واحتج لهذا القول بأن التخيير يستدعي التمييز والفهم ، ولا ضابط له في الأطفال ، فضبط بمظنته وهي السبع ، فإنها أول سن التمييز ؛ ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم حدا للوقت الذي يؤمر فيه الصبي بالصلاة .

وقولكم : إن الأحاديث وقائع أعيان ، فنعم هي كذلك ، ولكن يمتنع حملها على تخيير الرجال البالغين كما تقدم . وفي بعضها لفظ " غلام " ، وفي بعضها لفظ " صغير لم يبلغ " ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية