الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل وأما قصة بنت حمزة ، واختصام علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم فيها ، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها لجعفر ، فإن هذه الحكومة كانت عقيب فراغهم من عمرة القضاء ، فإنهم لما خرجوا من مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم ، فأخذ علي بيدها ، ثم تنازع فيها هو وجعفر وزيد ، وذكر كل واحد من الثلاثة ترجيحا ، فذكر زيد أنها ابنة أخيه للمؤاخاة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة ، وذكر علي كونها ابنة عمه ، وذكر جعفر مرجحين : القرابة ، وكون خالتها عنده ، فتكون عند خالتها ، فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم مرجح جعفر دون مرجح الآخرين ، فحكم له ، وجبر كل واحد منهم وطيب قلبه بما هو أحب إليه من أخذ البنت .

فأما مرجح المؤاخاة فليس بمقتض للحضانة ، ولكن زيدا كان وصي حمزة ، وكان الإخاء حينئذ يثبت به التوارث ، فظن زيد أنه أحق بها لذلك .

وأما مرجح القرابة هاهنا وهي بنوة العم ، فهل يستحق بها الحضانة ؟ على قولين ، أحدهما : يستحق بها وهو منصوص الشافعي ، وقول مالك ، وأحمد ، وغيره ؛ لأنه عصبة ، وله ولاية بالقرابة ، فقدم على الأجانب كما يقدم عليهم [ ص: 429 ] في الميراث وولاية النكاح وولاية الموت ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر على جعفر وعلي ادعاءهما حضانتها ، ولو لم يكن لهما ذلك لأنكر عليهما الدعوى الباطلة ، فإنها دعوى ما ليس لهما ، وهو لا يقر على باطل .

والقول الثاني : أنه لا حضانة لأحد من الرجال سوى الآباء والأجداد ، هذا قول بعض أصحاب الشافعي ، وهو مخالف لنصه وللدليل . فعلى قول الجمهور - وهو الصواب - إذا كان الطفل أنثى ، وكان ابن العم محرما لها برضاع أو نحوه - كان له حضانتها ، وإن جاوزت السبع وإن لم يكن محرما فله حضانتها صغيرة حتى تبلغ سبعا ، فلا يبقى له حضانتها ، بل تسلم إلى محرمها أو امرأة ثقة . وقال أبو البركات في " محرره " : لا حضانة له ما لم يكن محرما برضاع أو نحوه .

فإن قيل : فالحكم بالحضانة من النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة هل وقع للخالة أو لجعفر ؟

قيل : هذا مما اختلف فيه على قولين ، منشؤهما اختلاف ألفاظ الحديث في ذلك ، ففي " صحيح البخاري " من حديث البراء : فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها .

وعن أبي داود : من حديث رافع بن عجير ، عن أبيه ، عن علي في هذه القصة . ( وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها ، وإنما الخالة أم ) . ثم ساقه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وقال : قضى بها لجعفر ؛ لأن خالتها عنده ، ثم ساقه من طريق إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن هانئ بن هانئ وهبيرة بن يريم ، وقال : ( فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها ، وقال : الخالة بمنزلة الأم ) .

[ ص: 430 ] واستشكل كثير من الفقهاء هذا وهذا ، فإن القضاء إن كان لجعفر فليس محرما لها ، وهو وعلي في القرابة منها سواء ، وإن كان للخالة فهي مزوجة ، والحاضنة إذا تزوجت سقطت حضانتها ، ولما ضاق هذا على ابن حزم طعن في القصة بجميع طرقها . وقال أما حديث البخاري فمن رواية إسرائيل ، وهو ضعيف ، وأما حديث هانئ وهبيرة فمجهولان ، وأما حديث ابن أبي ليلى فمرسل ، وأبو فروة الراوي عنه هو مسلم بن سالم الجهني ليس بالمعروف ، وأما حديث نافع بن عجير فهو وأبوه مجهولان ، ولا حجة في مجهول ، قال : إلا أن هذا الخبر بكل وجه حجة على الحنفية والمالكية والشافعية ؛ لأن خالتها كانت مزوجة بجعفر ، وهو أجمل شاب في قريش ، وليس هو ذا رحم محرم من بنت حمزة . قال ونحن لا ننكر قضاءه بها لجعفر من أجل خالتها ؛ لأن ذلك أحفظ لها .

قلت وهذا من تهوره رحمه الله وإقدامه على تضعيف ما اتفقت الناس على صحته ، فخالفهم وحده ، فإن هذه القصة شهرتها في الصحاح والسنن والمسانيد والسير والتواريخ تغني عن إسنادها ، فكيف وقد اتفق عليها صاحب الصحيح ، ولم يحفظ عن أحد قبله الطعن فيها البتة ، وقوله : إسرائيل ضعيف ، فالذي غره في ذلك تضعيف علي بن المديني له ، ولكن أبى ذلك سائر أهل الحديث ، واحتجوا به ، ووثقوه وثبتوه ، قال أحمد : ثقة وتعجب من حفظه ، وقال أبو حاتم . وهو من أتقن أصحاب أبي إسحاق ، ولا سيما وقد روى هذا الحديث عن أبي إسحاق ، وكان يحفظ حديثه كما يحفظ السورة من القرآن ، وروى له الجماعة كلهم محتجين به .

وأما قوله : إن هانئا وهبيرة مجهولان ، فنعم مجهولان عنده ، معروفان عند أهل السنن ، وثقهما الحفاظ ، فقال النسائي : هانئ بن هانئ ليس به بأس ، وهبيرة روى له أهل السنن الأربعة وقد وثق .

[ ص: 431 ] وأما قوله : حديث ابن أبي ليلى وأبو فروة الراوي عنه مسلم بن مسلم الجهني ليس بالمعروف ، فالتعليلان باطلان ؛ فإن عبد الرحمن بن أبي ليلى روى عن علي غير حديث ، وعن عمر ، ومعاذ رضي الله عنهما . والذي غر أبا محمد أن أبا داود قال : حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا سفيان عن أبي فروة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بهذا الخبر ، وظن أبو محمد ، أن عبد الرحمن لم يذكر عليا في الرواية ، فرماه بالإرسال ، وذلك من وهمه ، فإن ابن أبي ليلى روى القصة عن علي ، فاختصرها أبو داود ، وذكر مكان الاحتجاج ، وأحال على العلم المشهور برواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي ، وهذه القصة قد رواها علي ، وسمعها منه أصحابه : هانئ بن هانئ ، وهبيرة بن يريم ، وعجير بن عبد يزيد ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، فذكر أبو داود حديث الثلاثة الأولين لسياقهم لها بتمامها ، وأشار إلى حديث ابن أبي ليلى ؛ لأنه لم يتمه ، وذكر السند منه إليه ، فبطل الإرسال ، ثم رأيت أبا بكر الإسماعيلي قد روى هذا الحديث في مسند علي مصرحا فيه بالاتصال ، فقال : أخبرنا الهيثم بن خلف ، حدثنا عثمان بن سعيد المقري ، حدثنا يوسف بن عدي ، حدثنا سفيان ، عن أبي فروة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن علي ، أنه اختصم هو وجعفر وزيد ، وذكر الحديث .

وأما قوله : إن أبا فروة ليس بالمعروف ، فقد عرفه سفيان بن عيينة وغيره ، وخرجا له في " الصحيحين " .

وأما رميه نافع بن عجير وأباه بالجهالة ، فنعم ، ولا يعرف حالهما ، وليسا من المشهورين بنقل العلم ، وإن كان نافع أشهر من أبيه ؛ لرواية ثقتين عنه : محمد بن إبراهيم التميمي ، وعبد الله بن علي ، فليس الاعتماد على روايتهما ، وبالله التوفيق ، فثبتت صحة الحديث .

وأما الجواب عن استشكال من استشكله ، فنقول وبالله التوفيق : لا إشكال ، [ ص: 432 ] سواء كان القضاء لجعفر أو للخالة ، فإن ابنة العم إذا لم يكن لها قرابة سوى ابن عمها جاز أن تجعل مع امرأته في بيته ، بل يتعين ذلك وهو أولى من الأجنبي ، لا سيما إن كان ابن العم مبرزا في الديانة ، والعفة والصيانة ، فإنه في هذه الحال أولى من الأجانب بلا ريب .

فإن قيل : فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ابن عمها ، وكان محرما لها ؛ لأن حمزة كان أخاه من الرضاعة ، فهلا أخذها هو ؟

قيل : رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في شغل شاغل بأعباء الرسالة ، وتبليغ الوحي ، والدعوة إلى الله ، وجهاد أعداء الله عن فراغه للحضانة ، فلو أخذها لدفعها إلى بعض نسائه ، فخالتها أمس بها رحما وأقرب .

وأيضا فإن المرأة من نسائه لم تكن تجيئها النوبة إلا بعد تسع ليال ، فإن دارت الصبية معه حيث دار ، كان مشقة عليها ، وكان فيه من بروزها وظهورها كل وقت ما لا يخفى ، وإن جلست في بيت إحداهن كانت لها الحضانة وهي أجنبية . هذا إن كان القضاء لجعفر وإن كان للخالة - وهو الصحيح وعليه يدل الحديث الصحيح الصريح - فلا إشكال ؛ لوجوه :

أحدها : أن نكاح الحاضنة لا يسقط حضانة البنت ، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد ، وأحد قولي العلماء ، وحجة هذا القول الحديث ، وقد تقدم سر الفرق بين الذكر والأنثى .

الثاني : أن نكاحها قريبا من الطفل لا يسقط حضانتها ، وجعفر ابن عمها .

الثالث : أن الزوج إذا رضي بالحضانة وآثر كون الطفل عنده في حجره لم تسقط الحضانة ، هذا هو الصحيح ، وهو مبني على أصل ، وهو أن سقوط الحضانة بالنكاح هو مراعاة لحق الزوج ، فإنه يتنغص عليه الاستمتاع المطلوب من المرأة لحضانتها لولد غيره ، ويتنكد عليه عيشه مع المرأة ، لا [ ص: 433 ] يؤمن أن يحصل بينهما خلاف المودة والرحمة ؛ ولهذا كان للزوج أن يمنعها من هذا مع اشتغالها هي بحقوق الزوج ، فتضيع مصلحة الطفل ، فإذا آثر الزوج ذلك ، وطلبه وحرص عليه ، زالت المفسدة التي لأجلها سقطت الحضانة ، والمقتضي قائم ، فيترتب عليه أثره ، يوضحه أن سقوط الحضانة بالنكاح ليست حقا لله ، وإنما هي حق للزوج وللطفل وأقاربه ، فإذا رضي من له الحق جاز ، فزال الإشكال على كل تقدير ، وظهر أن هذا الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الأحكام وأوضحها ، وأشدها موافقة للمصلحة ، والحكمة ، والرحمة ، والعدل ، وبالله التوفيق .

فهذه ثلاثة مدارك في الحديث للفقهاء ، أحدها : أن نكاح الحاضنة لا يسقط حضانتها ، كما قاله الحسن البصري ، وقضى به يحيى بن حمزة ، وهو مذهب أبي محمد ابن حزم .

والثاني : أن نكاحها لا يسقط حضانة البنت ، ويسقط حضانة الابن ، كما قاله أحمد في إحدى روايتيه .

والثالث : أن نكاحها لقريب الطفل لا يسقط حضانتها ، ونكاحها للأجنبي يسقطها ، كما هو المشهور من مذهب أحمد .

وفيه مدرك رابع لمحمد بن جرير الطبري ، وهو أن الحاضنة إن كانت أما والمنازع لها الأب ، سقطت حضانتها بالتزويج ، وإن كانت خالة أو غيرها من نساء الحضانة ، لم تسقط حضانتها بالتزويج ، وكذلك إن كانت أما والمنازع لها غير الأب من أقارب الطفل لم تسقط حضانتها .

ونحن نذكر كلامه وما له وعليه فيه ، قال في " تهذيب الآثار " بعد ذكر حديث ابنة حمزة : فيه الدلالة الواضحة على أن قيم الصبية الصغيرة والطفل الصغير من قرابتهما من قبل أمهاتهما من النساء أحق بحضانتهما من عصباتهما من قبل الأب ، وإن كن ذوات أزواج غير الأب الذي هما منه ، وذلك أن [ ص: 434 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بابنة حمزة لخالتها في الحضانة ، وقد تنازع فيها ابنا عمها علي وجعفر ومولاها وأخو أبيها الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبينه ، وخالتها يومئذ لها زوج غير أبيها ، وذلك بعد مقتل حمزة وكان معلوما بذلك صحة قول من قال : لا حق لعصبة الصغير والصغيرة من قبل الأب في حضانته ما لم تبلغ حد الاختيار ، بل قرابتهما من النساء من قبل أمهما أحق ، وإن كن ذوات أزواج .

فإن قال قائل : فإن كان الأمر في ذلك عندك على ما وصفت من أن أم الصغير والصغيرة وقرابتهما من النساء من قبل أمهاتهما أحق بحضانتهما ، وإن كن ذوات أزواج من قرابتهما من قبل الأب من الرجال الذين هم عصبتهما ، فهلا كانت الأم ذات الزوج كذلك مع والدهما الأدنى والأبعد كما كانت الخالة أحق بهما وإن كان لها زوج غير أبيهما ؟ وإلا فما الفرق ؟

قيل : الفرق بينهما واضح ، وذلك لقيام الحجة بالنقل المستفيض روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأم أحق بحضانة الأطفال إذا كانت بانت من والدهم ، ما لم تنكح زوجا غيره ، ولم يخالف في ذلك من يجوز الاعتراض به على الحجة فيما نعلمه . وقد روي في ذلك خبر ، وإن كان في إسناده نظر ، فإن النقل الذي وصفت أمره دال على صحته ، وإن كان واهي السند . ثم ساق حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : ( أنت أحق به ما لم تنكحي ) من طريق المثنى بن الصباح عنه .

ثم قال : وأما إذا نازعها فيه عصبة أبيه ، فصحة الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه أنه جعل الخالة ذات الزوج ، غير أبي الصبية أحق بها من بني عمها وهم عصبتها ، فكانت الأم أحق بأن تكون أولى منهم وإن كان لها زوج غير أبيها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل الخالة أولى منهم لقرابتها من الأم ، وإذا كان ذلك كالذي وصفنا تبين أن القول الذي قلناه في المسألتين أصل إحداهما من جهة النقل المستفيض ، والأخرى من جهة نقل الآحاد العدول ، فإذا كان [ ص: 435 ] كذلك فغير جائز رد حكم إحداهما إلى حكم الأخرى ، إذ القياس إنما يجوز استعماله فيما لا نص فيه من الأحكام ، فأما ما فيه نص من كتاب الله أو خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حظ فيه للقياس .

فإن قال قائل: زعمت أنك إنما أبطلت حق الأم من الحضانة إذا نكحت زوجا غير أبي الطفل ، وجعلت الأب أولى بحضانتها منها بالنقل المستفيض ، فكيف يكون ذلك كما قلت ؟ وقد علمت أن الحسن البصري كان يقول : المرأة أحق بولدها وإن تزوجت ، وقضى بذلك يحيى بن حمزة .

قيل : إن النقل المستفيض الذي تلزم به الحجة في الدين عندنا ليس صفته ألا يكون له مخالف ، ولكن صفته أن ينقله قولا وعملا من علماء الأمة من ينتفي عنه أسباب الكذب والخطأ ، وقد نقل من صفته ذلك من علماء الأمة أن المرأة إذا نكحت بعد بينونتها من زوجها زوجا غيره أن الأب أولى بحضانة ابنتها منها ، فكان ذلك حجة لازمة غير جائز الاعتراض عليها بالرأي ، وهو قول من يجوز عليه الغلط في قوله ، انتهى كلامه .

التالي السابق


الخدمات العلمية