الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
109 - قوله: (ص): "فالحديث المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهره السلامة منه" .

قلت: وهذا تحرير لكلام الحاكم في "علوم الحديث" فإنه قال:

"وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة فتخفى عليهم علته، والحجة فيه عندنا العلم والفهم والمعرفة".

[ متى يسمى الحديث معلولا :]

فعلى هذا لا يسمى الحديث المنقطع مثلا معلولا، (ولا الحديث الذي راويه مجهول أو مضعف معلولا وإنما يسمى معلولا" إذا آل أمره إلى شيء من ذلك مع كونه ظاهر السلامة من ذلك.

وفي هذا رد على من زعم أن المعلول يشمل كل مردود.

وإذا تقرر هذا فالسبيل إلى معرفة سلامة الحديث من العلة كما نقله المصنف عن الخطيب أن يجمع طرقه، فإن اتفقت رواته واستووا ظهرت سلامته.

[ ص: 711 ] وإن اختلفوا أمكن ظهور العلة، فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف وسأوضحه في النوع الذي بعد هذا [إن شاء الله تعالى] وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكا، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهما غايصا واطلاعا حاويا وإدراكا لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم وإليهم المرجع في ذلك لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك، والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك.

وقد تقصر عبارة المعلل منهم، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح [إحدى] الروايتين على الأخرى [كما] في نقد الصيرفي سواء، فمتى وجدنا حديثا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم - بتعليله - فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه.

وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول: "وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث" .

وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل، وحيث يصرح بإثبات العلة فأما إن وجد غيره صححه فينبغي حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين كلاميهما.

وكذلك إذا أشار المعلل إلى العلة إشارة ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين، فإن ذلك يحتاج إلى الترجيح - والله أعلم -.

[ ص: 712 ] قال الحافظ العلائي بعد أن ذكر ما هذا ملخصه: "فأما إذا كان رجال الإسنادين متكافئين في الحفظ أو العدد أو كان من أسنده أو رفعه دون من أرسله أو وقفه في شيء من ذلك مع أن كلهم ثقات محتج بهم فههنا مجال النظر واختلاف أئمة الحديث والفقهاء.

[مسلك أهل الحديث عند تكافؤ المختلفين الرجوع إلى الترجيح:]

فالذي يسلكه كثير من أهل الحديث بل غالبهم جعل ذلك علة مانعة من الحكم بصحة الحديث مطلقا، فيرجعون إلى الترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى، فمتى اعتضدت إحدى الطريقين بشيء من وجوه الترجيح حكموا لها وإلا توقفوا عن الحديث وعللوه بذلك، ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده - والله أعلم.

[اعتبار أئمة الفقه والأصول إسناد الحديث ورفعه من باب الزيادة:]

قال: وأما أئمة الفقه والأصول، فإنهم جعلوا إسناد الحديث ورفعه كالزيادة في متنه (يعني كما تقدم تفصيله عنهم).

ويلزم على ذلك قبول الحديث الشاذ كما تقدم .

ومن المواضع الخفية في الأحاديث المعللة - ما ذكره ابن أبي حاتم قال: سألت أبي عن حديث رواه حماد بن سلمة عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

"من باع عبدا وله مال ..." الحديث.

[ ص: 713 ] فقال: "قد كنت أستحسن هذا الحديث من ذي الطريق حتى رأيت من حديث بعض الثقات عن عكرمة بن خالد عن الزهري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - فعاد الحديث إلى الزهري ، والزهري إنما رواه عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه - رضي الله تعالى عنهم -.

[ ص: 714 ] وهو معلول (يعني لأن نافعا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ) فجعل مسألة بيع العبد عن عمر - رضي الله عنه - ومسألة بيع النخل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قال النسائي : سالم أجل من نافع ولكن القول في هذا قول نافع وكذا قال علي بن المديني والدارقطني .

قال العلائي : "وبهذه النكتة يتبين أن التعليل أمر خفي لا يقوم به إلا نقاد أئمة الحديث دون الفقهاء الذين لا اطلاع لهم على طرقه وخفاياها".

قلت: وسبب الخفاء في هذا المثال أن عكرمة بن خالد أكبر من الزهري وهو معروف بالرواية عن ابن عمر - رضي الله عنهما - فلما وجد الحديث من رواية حماد بن سلمة عنه كان ظاهره الصحة وكان يعتضد بها ما رواه الزهري عن سالم عن أبيه ويرجح على رواية نافع خلافا لما قال ابن المديني والنسائي وغيرهما.

لكن لما فتشت الطرق تبين أن عكرمة سمعه ممن هو أصغر منه وهو الزهري ، والزهري لم يسمعه من ابن عمر - رضي الله عنهما - إنما سمعه من سالم فوضح أن رواية حماد بن سلمة مدلسة أو مسواة، ورجع هذا الإسناد الذي كان يمكن الاعتضاد به إلى الإسناد الأول الذي حكم عليه بالوهم وكان سبب حكمهم عليه بالوهم كون سالم أو من دونه سلك الجادة; لأن العادة والغالب أن الإسناد إذا انتهى إلى الصحابي - رضي الله تعالى عنه - قيل بعده: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء هنا بعد الصحابي ذكر صحابي آخر والحديث من قوله - كان الظن غالبا على أن من ضبطه هكذا أتقن ضبطا - والله أعلم -.

[ ص: 715 ] قال العلائي : وهذا كله إذا كان الإسناد واحدا من حيث المخرج غير مختلف في الحالات، أما إذا اختلف في الوصل والإرسال كأن يروي بعضهم عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - حديثا مرفوعا فيرويه بعضهم عن الزهري ، عن أبي سلمة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا.

أو يرويه بعضهم عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - حديثا مرفوعا، فيرويه بعضهم، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي سعيد - رضي الله عنه - موقوفا.

ففي مثل هذه الصيغة يضعف تعليل أحدهما بالآخر; لكون كل منهما إسنادا برأسه، ولقوة احتمال كونهما إسنادين عند الزهري أو عند الأعمش كل واحد منهما على وجه.

قلت: وإنما يقوى هذا إذا أتى بهما الراوي جميعا في وقت واحد وحينئذ ينتفي التعليل، وشرط هذا كله التساوي في الحفظ أو العدد.

فأما إذا كان راوي الوصل أو الرفع مرجوحا، فلا، [كما] تقرر غير مرة - والله أعلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية