الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          العلاوة الثالثة :

                          ( هل كان الطوفان عاما أم خاصا ؟ )

                          نص التوراة - أو سفر التكوين - أن الطوفان كان عاما مهلكا لجميع البشر إلا ذرية نوح من أبنائه الثلاثة : سام وحام ويافث ، فإنه لم يكن في الأرض غيرهم ، بحسب ما سبق فيه خبره من خلق السماوات والأرض وآدم وذريته كما تقدم .

                          والله - تعالى - يقول : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم 18 : 51 أما قوله في نوح - عليه السلام - بعد ذكر تنجيته وأهله : وجعلنا ذريته هم الباقين 37 : 77 فالحصر فيهم يجوز أن يكون إضافيا ، أي الباقين دون غيرهم من قومه ، وأما قوله : ( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ( 71 : 26 ) فليس نصا في أن المراد بالأرض هذه الكرة كلها ، فإن المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أن تذكر الأرض ويراد بها أرضهم ووطنهم ، كقوله - تعالى - حكاية عن خطاب فرعون لموسى وهارون : وتكون لكما الكبرياء في الأرض 10 : 78 يعني أرض مصر ، وقوله : ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ) ( 17 : 76 ) فالمراد بها مكة ، وقوله : [ ص: 89 ] وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين 17 : 4 والمراد بها الأرض التي كانت وطنهم ، والشواهد عليه كثيرة .

                          ولكن ظواهر الآيات تدل - بمعونة القرائن والتقاليد الموروثة عن أهل الكتاب - على أنه لم يكن في الأرض كلها في زمن نوح إلا قومه ، وأنهم هلكوا كلهم بالطوفان ولم يبق بعده فيها غير ذريته ، وهذا يقتضي أن يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سهلها وجبالها لا في الأرض كلها ، إلا إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها ، فإن علماء التكوين وطبقات الأرض ( الجيولوجية ) يقولون : إن الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة نارية ملتهبة ، ثم صارت كرة مائية ، ثم ظهرت فيها اليابسة بالتدريج .

                          وقد استفتي شيخنا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في هذه المسألة فأفتى بما ننقله هنا بنصه من ( ص 666 ) من الجزء الأول من تاريخه وهو

                          : فتوى الأستاذ الإمام في طوفان نوح :

                          جواب سؤال ورد على الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية من حضرة الأستاذ الشيخ عبد الله القدومي خادم العلم الشريف بمدينة نابلس ، وفيه نص السؤال :

                          وصلنا مكتوبكم المؤرخ في 4 شوال سنة 1317 هـ الذي أنهيتم به أنه ظهر قبلكم نشء جديد من الطلبة ديدنهم البحث في العلوم والرياضة ، والخوض في توهين الأدلة القرآنية ، وقد سمع من مقالتهم الآن : أن الطوفان لم يكن عاما لأنحاء الأرض ، بل هو خاص بالأرض التي كان بها قوم نوح - عليه السلام - ، وأنه بقي ناس في أرض الصين لم يصبهم الغرق ، وأن دعاء نوح - عليه السلام - بهلاك الكافرين لم يكن عاما بل هو خاص بكفار قومه ; لأنه لم يكن مرسلا إلا إلى قومه ، بدليل ما صح ( ( وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة ) ) .

                          فإذا قيل لهم : إن الآيات الكريمة ناطقة بخلاف ذلك ، كقوله - تعالى - حكاية عن نوح - عليه السلام - : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ( 71 : 26 ) وكقوله - تعالى - : ( وجعلنا ذريته هم الباقين ) ( 37 : 77 ) وقوله - تعالى - : ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) ( 11 : 43 ) قالوا : هي قابلة للتأويل ولا حجة فيها ، وإذا قيل لهم : إن جهابذة المحدثين أجابوا بأنه صح في أحاديث الشفاعة أن نوحا - عليه السلام - أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، وأنه يتعين أن يكون قومه أهل الأرض ، ويكون عموم بعثته أمرا اتفاقيا لعدم وجود أحد غير قومه ، ولو وجد غيره لم يكن مرسلا إليهم - سخروا من المحدثين ، [ ص: 90 ] واستندوا إلى حكايات منسوبة إلى أهل الصين ، ورغبتم منا بذلك المكتوب كشف الغطاء عن سر هذا الحادث العظيم ، والإفادة بما يقتضيه الحق ، ويطمئن إليه القلب .

                          والجواب عن ذلك والحمد لله : أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على عموم الطوفان ، ولا على عموم رسالة نوح - عليه السلام - ، وما ورد من الأحاديث - على فرض صحة سنده - فهو آحاد لا يوجب اليقين ، والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن ، إذ عد اعتقادها من عقائد الدين .

                          وأما المؤرخ ومريد الاطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ أو صاحب الرأي ، وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها ، ولا تتخذ دليلا قطعيا على معتقد ديني .

                          وأما مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر في طبقات الأرض ، وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم ، أما أهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية فعلى أن الطوفان كان عاما لكل الأرض ، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر ، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال ; لأن هذه الأشياء مما لا تتكون إلا في البحر .

                          فظهورها في رءوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات ، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض ، ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عاما ، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها - غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاما لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز ، بل على كل من يعتقد بالدين ألا ينفي شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها وينصرف عنها إلى التأويل إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير المراد ، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل ، وعناء شديد ، وعلم غزير في طبقات الأرض وما تحتوي عليه ، وذلك يتوقف على علوم شتى عقلية ونقلية ، ومن هذى برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف لا يسمع له قول ، ولا يسمح له ببث جهالاته ، والله سبحانه وتعالى أعلم ) ) اهـ .

                          ( أقول ) : خلاصة هذه الفتوى أن ظواهر القرآن والأحاديث أن الطوفان كان عاما شاملا لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم ، فيجب اعتقاده ، ولكنه لا يقتضي أن يكون عاما للأرض ; إذ لا دليل على أنهم كانوا يمثلون الأرض ، وكذلك وجود الأصداف والحيوانات البحرية في قلل الجبال لا يدل على أنها من أثر ذلك الطوفان ، بل الأقرب أنه كان من أثر تكون الجبال وغيرها من اليابسة في الماء كما قلنا آنفا ، فإن صعود الماء إلى الجبال [ ص: 91 ] أياما معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها ، وقد قلنا في العلاوة الثانية : إن هذه المسائل التاريخية ليست من مقاصد القرآن ، ولذلك لم يبينها بنص قطعي . فنحن نقول بما تقدم إنه ظاهر النصوص ، ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية ، فإن أثبت علم الجيولوجية خلافه لا يضرنا ; لأنه لا ينقض نصا قطعيا عندنا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية