الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم [ ص: 364 ] بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون

                                                                                                                                                                                                "وآثارا" قصورهم ومصانعهم. وقيل: مشيهم بأرجلهم لعظم إجرامهم. فما أغنى عنهم ما نافية أو مضمنة معنى الاستفهام، ومحلها النصب، والثانية: موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع، يعني أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم. فرحوا بما عندهم من العلم فيه وجوه: منها أنه أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى: بل ادارك علمهم في الآخرة [النمل: 66]: وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون: لا نبعث ولا نعذب، وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [فصلت: 50]، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [الكهف: 36] وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء، كما قال عز وجل: كل حزب بما لديهم فرحون [الروم: 32] ومنها: أن يريد علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان، وكانوا إذ سمعوا بوحي الله: دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. وعن سقراط: أنه سمع بموسى صلوات الله عليه وسلامه، وقيل له: لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. ومنها: أن يوضع قوله: فرحوا بما عندهم من العلم [غافر: 83] ولا علم عندهم البتة، موضع قوله: لم يفرحوا بما جاءهم من العلم، مبالغة في نفى فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة، مع تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلماء. ومنها أن يراد: فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، كأنه قال: استهزءوا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوحي فرحين مرحين. ويدل عليه قوله تعالى: وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ومنها: أن يجعل الفرح للرسل. ومعناه: أن الرسل لما رأوا جهلهم المتمادي واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم: فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه. وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم. ويجوز أن يريد بما فرحوا به من العلم: علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [الروم: 7]، ذلك مبلغهم من العلم [النجم: 30] فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات -وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات- لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزءوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب [ ص: 365 ] للفوائد من علمهم، ففرحوا به.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية