الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون

                                                                                                                                                                                                والله خلقكم وما تعملون يعني خلقاء وخلق ما تعملونه من الأصنام ، كقوله : بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن [الأنبياء : 56 ] أي فطر الأصنام ، فإن قلت : كيف يكون الشيء الواحد مخلوقا لله معمولا لهم ، حيث أوقع خلقه وعملهم عليها جميعا ؟ قلت : هذا كما يقال : عمل النجار الباب والكرسي ، وعمل الصائغ السوار والخلخال ، [ ص: 219 ] والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها ، والأصنام جواهر وأشكال ، فخالق جواهرها الله ، وعاملوا أشكالها الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أجزائها ، حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه . فإن قلت : فما أنكرت أن تكون "ما " مصدرية لا موصولة ، ويكون المعنى : والله خلقكم وعملكم ، كما تقول المجبرة ؟ قلت : أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد بطلانه بحجج العقل والكتاب ، أن معنى الآية يأباه إباء جليا ، وينبو عنه نبوا ظاهرا ، وذلك أن الله عز وجل قد احتج عليهم بأن العابد والمعبود جميعا خلق الله ، فكيف يعبد المخلوق المخلوق ؟ على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود وشكله ، ولولاه لما قدر أن يصور نفسه ويشكلها ، ولو قلت : والله خلقكم وخلق عملكم ولم يكن محتجا عليهم ولا كان لكلامك طباق . وشيء آخر : وهو أن قوله : ما تعملون ترجمة عن قوله : ما تنحتون و "ما " في ما تنحتون موصولة لا مقال فيها ، فلا يعدل بها عن أختها إلا متعسف متعصب لمذهبه ، من غير نظر في علم البيان ، ولا تبصر لنظم القرآن . فإن قلت : اجعلها موصولة حتى لا يلزمني ما ألزمت ، وأريد : وما تعملونه من أعمالكم . قلت : بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلا الإذعان للحق ، وذلك [ ص: 220 ] أنك وإن جعلتها موصولة ، فإنك في إرادتك بها العمل غير محتج على المشركين ، كحالك وقد جعلتها مصدرية ، وأيضا فإنك قاطع بذلك الوصلة بين ما تعملون وما تنحتون ، حيث تخالف بين المرادين بهما ، فتريد بما تنحتون : الأعيان التي هي الأصنام ، ربما تعملون : المعاني التي هي الأعمال ، وفى ذلك فك النظم وتبتيره ، كما إذا جعلتها مصدرية .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية