الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            3671 - ( وعن أنس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طعم طعاما لعق أصابعه الثلاث وقال : إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ، وأمرنا أن نسلت القصعة وقال : إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة } رواه أحمد [ ص: 186 ] ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            3672 - ( وعن المغيرة بن شعبة قال : { ضفت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فأمر بجنب فشوي ، قال : فأخذ الشفرة فجعل يحتز لي بها منه } . رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            3673 - ( وعن جابر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعض حجر نسائه فدخل ، ثم أذن لي فدخلت ، فقال : هل من غداء ؟ فقالوا : نعم ، فأتي بثلاثة أقرصة ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرصا فوضعه بين يديه ، وأخذ قرصا آخر فوضعه بين يدي ، ثم أخذ الثالث فكسره باثنتين ، فجعل نصفه بين يديه ، ونصفه بين يدي ، ثم قال : هل من أدم ؟ قالوا : لا إلا شيء من خل ، قال : هاتوه فنعم الأدم هو } رواه أحمد ومسلم ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث المغيرة بن شعبة أخرجه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجه ، ولفظ أبي داود في باب ترك الوضوء مما مست النار عن المغيرة بن شعبة ، قال : { ضفت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فأمر بجنب فشوي فأخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه ، قال : فجاء بلال فآذنه بالصلاة ، قال : فألقى السكين وقال : ما له تربت يداه ، وقام يصلي } زاد ابن الأنباري " وكان بشاربي وفاء فقصه على سواك أو قال : أقصه لك على سواك " قوله : ( لعق أصابعه ) فيه استحباب لعق الأصابع محافظة على بركة الطعام وتنظيفا ، وسيأتي تمام الكلام على ذلك .

                                                                                                                                            وفيه استحباب الأكل بثلاث أصابع ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر بأن يكون مرقا أو غيره مما لا يمكن بثلاث وغير ذلك من الأعذار قوله : ( فليمط عنها الأذى ) فيه مشروعية أكل اللقمة الساقطة بعد مسح أذى يصيبها ، هذا إذا لم تقع على موضع نجس ، ولا بد من غسلها إن أمكن ، فإن تعذر قال النووي : أطعمها حيوانا ولا يتركها للشيطان قوله : ( أن نسلت القصعة ) قال الخطابي : سلت القصعة تتبع ما يبقى فيها من الطعام .

                                                                                                                                            وفيه أن لعق القصعة مشروع ، والعلة في ذلك ما ذكرناه عقبه من أنهم لا يدرون في أي طعامهم البركة : أي أن الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة ، ولا يدرى هل البركة فيما أكل أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة ، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصل البركة ، وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير والإمتاع به .

                                                                                                                                            قال النووي : والمراد هنا والله أعلم ما تحصل به التغذية وتسلم [ ص: 187 ] عاقبته من أذى ويقوي على طاعة الله وغير ذلك ، وسيأتي حديث استغفار القصعة قريبا وهو صالح للتعليل به قوله : ( ضفت النبي صلى الله عليه وسلم ) بكسر الضاد المعجمة من ضاف يضيف مثل باع يبيع . وقال في النهاية : ضفت الرجل : إذا نزلت به في ضيافته . وقال في الضياء : إذا تعرض به ليضيفه . قال في النهاية : وأضفته إذا أنزلته ، وتضيفته إذا نزلت به قوله : ( فأخذ الشفرة فجعل يحتز لي بها ) فيه دليل على جواز قطع اللحم بالسكين . وقد أخرج أبو داود عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنع الأعاجم ، وانهشوه فإنه أهنأ وأمرأ } . ويؤيد حديث الباب ما رواه البخاري وغيره من حديث عمرو بن أمية الضمري أنه { رأى رسول الله يحتز من كتف شاة ، فدعي إلى الصلاة فألقى السكين فصلى ولم يتوضأ } على أن حديث عائشة المذكور في إسناده أبو معشر السندي المدني واسمه نجيح ، كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه ويستضعفه جدا ويضحك إذا ذكره غيره . قال المنذري : وتكلم فيه غير واحد من الأئمة . وقال النسائي : أبو معشر له أحاديث مناكير منها هذا . ومنها عن أبي هريرة " ما بين المشرق والمغرب قبلة " وأما أحمد بن حنبل فقال : صدوق ، وعلى كل حال فحديث عائشة لا يعادل ما عارضه من حديث عمرو بن أمية وحديث الباب . ويروى عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث عائشة فقال : ليس بمعروف قوله : ( فأخذ قرصا . . . إلخ ) فيه استحباب التسوية بين الحاضرين على الطعام وإن كان بعضهم أفضل من بعض قوله : ( هل من أدم ) قال أهل اللغة : الإدام بكسر الهمزة : ما يؤتدم به ، يقال أدم الخبز يأدمه بكسر الدال ، وجمع الإدام أدم بضم الهمزة كإهاب وأهب وكتاب وكتب ، والأدم بإسكان الدال مفرد كالإدام ، كذا قال النووي . قال الخطابي والقاضي عياض : معنى الحديث مدح الاقتصار في المأكل ومنع النفس عن ملاذ الأطعمة تقديره ائتدموا بالخل وما في معناه مما تخف مؤنته ولا يعز وجوده ، ولا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن .

                                                                                                                                            قال النووي : والصواب الذي ينبغي أن يجزم به أنه مدح للخل نفسه . وأما الاقتصار في المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر . قال : وأما قول جابر : فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فهو كقول أنس : ما زلت أحب الدباء ، وهذا يؤيد ما قلناه في معنى الحديث أنه مدح للخل نفسه ، وقد كررنا مرات أن تأويل الراوي إذا لم يخالف الظاهر يتعين المصير إليه والعمل به عند جماهير العلماء من الفقهاء والأصوليين وهذا كذلك ، بل تأويل الراوي هنا هو ظاهر اللفظ ويتعين اعتماده ا هـ .

                                                                                                                                            وقيل وهو الصواب : إنه ليس فيه تفضيل على اللحم واللبن والعسل والمرق ، وإنما هو مدح له في تلك الحال التي حضر فيها ، ولو حضر لحم أو لبن لكان أولى بالمدح منه .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية