الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            3753 - ( وعن أبي سعيد قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية أن يشرب من أفواهها } . متفق عليه .

                                                                                                                                            وفي رواية واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب منه . أخرجاه ) .

                                                                                                                                            3754 - ( وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى أن يشرب من في السقاء } . رواه البخاري وأحمد ، وزاد ، قال أيوب : فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية ) .

                                                                                                                                            3755 - ( وعن ابن عباس قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء } . رواه الجماعة إلا مسلما ) .

                                                                                                                                            3756 - ( وعن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته كبشة قالت : { دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة قائما ، فقمت إلى فيها فقطعته } . رواه ابن ماجه والترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            3757 - ( وعن أم سليم قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت قربة معلقة ، فشرب منها وهو قائم فقطعت فاها فإنه لعندي . رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أم سليم أخرجه أيضا ابن شاهين والترمذي في الشمائل والطبراني والطحاوي في معاني الآثار .

                                                                                                                                            وفي الباب عن عبد الله بن أنيس عند أبي داود والترمذي قوله : ( عن اختناث الأسقية ) بالخاء المعجمة ثم المثناة من فوق بعدها نون وبعد الألف مثلثة افتعال من الخنث بالخاء المعجمة والنون والمثلثة ، وهو في الأصل الانطواء والتكسر والانثناء . والأسقية جمع سقاء ، والمراد به المتخذ من الأدم صغيرا كان أو كبيرا ، وقيل القربة قد تكون صغيرة وقد تكون كبيرة ، والسقاء لا يكون إلا صغيرا قوله : ( واختناثها . . . إلخ ) [ ص: 226 ] هو مدرج ، وقد جزم الخطابي أن تفسير الاختناث من كلام الزهري قوله : ( وزاد فقال : أيوب . . . إلخ ) هذه الزيادة زادها أيضا ابن أبي شيبة ، ولفظه : { شرب رجل من سقاء فانساب في بطنه حيتان ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك } وكذا أخرجه الإسماعيلي قوله : ( من في السقاء ) قال النووي : اتفقوا على أن النهي هنا للتنزيه لا للتحريم كذا قال ، وفي الاتفاق نظر ، فقد نقل ابن التين وغيره عن مالك أنه أجاز الشرب من أفواه القرب وقال : لم يبلغني فيه نهي .

                                                                                                                                            قال الحافظ : لم أر في شيء من الأحاديث المرفوعة ما يدل على الجواز إلا من فعله صلى الله عليه وسلم ، وأحاديث النهي كلها من قوله فهي أرجح . وإذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك فإن جميع ما ذكره العلماء في ذلك يقتضي أنه مأمون منه صلى الله عليه وسلم ، أما أولا فلعصمته وطيب نكهته ، وأما دخول شيء في فم الشارب فهو يقتضي أنه لو ملأ السقاء وهو يشاهد الماء الذي يدخل فيه ثم ربطه ربطا محكما ثم شرب منه لم يتناوله النهي .

                                                                                                                                            وقد أخرج الحاكم من حديث عائشة بسند قوي بلفظ : { نهى أن يشرب من في السقاء لأن ذلك ينتنه } وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصا بمن يشرب فيتنفس داخل السقاء أو باشر بفمه باطن السقاء . أما من صب من الفم إلى داخل فمه من غير مماسة فلا . ومن جملة ما علل به النهي أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء فينصب منه أكثر من حاجته فلا يأمن أن يشرق به أو يبل ثيابه . قال ابن العربي : واحدة من هذه العلل تكفي في ثبوت الكراهة وبمجموعها تقوى الكراهة جدا . قال ابن أبي جمرة : الذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور وفيها ما يقتضي الكراهة وفيها ما يقتضي التحريم ، والعادة في مثل ذلك ترجيح ما يقتضي التحريم . وقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي ، وحمل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة . وأطلق أبو بكر الأثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة لأنهم كانوا أولا يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء فنسخ الجواز . قال العراقي : لو فرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء ولم يتمكن من التناول بكفه فلا كراهة حينئذ ، وعلى هذا تحمل الأحاديث المذكورة وبين ما يكون لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النهي .

                                                                                                                                            قال الحافظ : ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلقة ، والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة ، ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقا بل على تلك الصورة وحدها وحملها على حالة الضرورة جمعا بين الخبرين أولى من حملها على النسخ والله أعلم . قال : وقد سبق ابن العربي إلى ما أشار إليه العراقي فقال : ويحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وسلم في حال ضرورة ، إما عند الحرب ، وإما عند عدم الإناء ، أو مع وجوده لكن لا يمكن تفريغ السقاء في [ ص: 227 ] الإناء ، ثم قال : ويحتمل أن يكون شرب من إداوة ، والنهي محمول على ما إذا كانت القربة كبيرة لأنها مظنة وجود الهوام . قال الحافظ : والقربة الصغيرة لا يمتنع وجود شيء من الهوام فيها والضرر يحصل به ولو كان حقيرا ا هـ .

                                                                                                                                            وقد عرفت أن كبشة وأم سليم صرحتا بأن ذلك كان في البيت وهو مظنة وجود الآنية . وعلى فرض عدمها فأخذ القربة من مكانها وإنزالها والصب منها إلى الكفين أو أحدهما ممكن ، فدعوى أن تلك الحالة ضرورية لم يدل عليها دليل ، ولا شك أن الشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب مطلقا ، ولكن لا فرق في تجويز العذر وعدمه بين المعلقة وغيرها ، وليست المعلقة مما يصاحبها العذر دون غيرها حتى يستدل بالشرب منها على اختصاصه بحال الضرورة ، وعلى كل حال فالدليل أخص من الدعوى ، فالأولى الجمع بين الأحاديث بحمل الكراهة على التنزيه ويكون شربه صلى الله عليه وسلم بيانا للجواز .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية