الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            3758 - ( وعن ابن عباس : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنا فمضمض وقال : إن له دسما } . رواه أحمد والبخاري ) .

                                                                                                                                            3759 - ( وعن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء ، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر ، فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال : الأيمن فالأيمن } رواه الجماعة إلا النسائي ) .

                                                                                                                                            3760 - ( وعن سهل بن سعد : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه ، وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ ، فقال للغلام : أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟ فقال الغلام : والله يا رسول الله لا آثرت بنصيبي منك أحدا فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده } . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            3761 - ( وعن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ساقي القوم آخرهم شربا } رواه ابن ماجه والترمذي وصححه )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أبي قتادة أخرجه أيضا أبو داود ، قال المنذري : ورجال إسناده ثقات . وقد [ ص: 228 ] أخرج مسلم في حديث أبي قتادة الأنصاري الطويل " قلت : لا أشرب حتى يشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الساقي آخرهم " قوله : ( فمضمض ) فيه مشروعية المضمضة بعد شراب اللبن . وقد روى أبو جعفر الطبري من طريق عقيل عن ابن شهاب بلفظ { تمضمضوا من شرب اللبن } والعلة : الدسومة الكائنة في اللبن ، والتعليل بذلك يشعر بأن ما كان له دسومة من مأكول أو مشروب فإنها تشرع له المضمضة قوله : ( قد شيب بماء ) أي مزج بالماء ، وإنما كانوا يمزجونه بالماء لأن اللبن يكون عند حلبه حارا وتلك البلاد في الغالب حارة ، فكانوا يمزجونه بالماء لذلك قوله : ( ثم أعطى الأعرابي وقال : الأيمن فالأيمن ) يجوز أن يكون قوله : الأيمن مبتدأ خبره محذوف : أي الأيمن مقدم أو أحق ، ويجوز أن يكون منصوبا على تقدير قدموا الأيمن أو اعطوا .

                                                                                                                                            وفيه دليل على أنه يقدم من على يمين الشارب في الشرب وهلم جرا ، وهو مستحب عند الجمهور .

                                                                                                                                            وقال ابن حزم : يجب ، ولا فرق بين شراب اللبن وغيره كما في حديث سهل بن سعد وغيره . ونقل عن مالك أنه خصه بالماء . قال ابن عبد البر : لا يصح عن مالك . وقال عياض : يشبه أن يكون مراده أن السنة ثبتت نصا في الماء خاصة ، وتقديم الأيمن في غير شرب الماء يكون بالقياس . قال ابن العربي : كان اختصاص الماء بذلك لكونه قد قيل إنه لا يملك بخلاف سائر المشروبات ، ومن ثم اختلف هل يجري الربا فيه وهو يقطع في سرقته ا هـ .

                                                                                                                                            ولا يخفى أن حديث أنس نص في اللبن . وحديث سهل بن سعد يعم الماء وغيره ، فتأويل قول مالك بأن السنة ثبتت في الماء لا يصح قوله : ( أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ) ظاهر في أنه لو أذن له لأعطاهم . ويؤخذ منه جواز الإيثار بمثل ذلك وهو مشكل على ما اشتهر من أنه لا إيثار بالقرب . وعبارة إمام الحرمين في هذا لا يجوز التبرع في العبادات ويجوز في غيرها ، وقد يقال إن القرب أعم من العبادة . وقد أورد على هذه القاعدة تجويز جذب واحد من الصف الأول ليصلي معه ، فإن خروج المجذوب من الصف الأول لقصد تحصيل فضيلة للجاذب وهي الخروج من الخلاف في بطلان صلاته .

                                                                                                                                            ويمكن الجواب بأنه لا إيثار إذ حقيقة الإيثار عطاء ما استحقه لغيره ، وهذا لم يعط الجاذب شيئا ، وإنما رجح مصلحته لأن مساعدة الجاذب على تحصيل مقصوده ليس فيها إعطاؤه ما كان يحصل للمجذوب لو لم يوافقه . قوله : ( فتله ) بفتح المثناة من فوق وتشديد اللام : أي وضعه . وقال الخطابي : وضعه بعنف وأصله من الرمي على التل وهو المكان العالي المرتفع ، ثم استعمل في كل شيء رمي به وفي كل إلقاء . وقيل : هو من التلتل بلام ساكنة بين المثناتين المفتوحتين وآخره لام وهو العنق . ومنه { وتله للجبين } : أي صرعه فألقى عنقه وجعل جبينه إلى الأرض ، والتفسير الأول أليق بمعنى حديث الباب ، وقد أنكر بعضهم تقييد الخطابي [ ص: 229 ] الوضع بالعنف . وظاهر هذا أن تقديم الذي على اليمين ليس لمعنى فيه بل لمعنى من جهة اليمين وهو فضلها على جهة اليسار .

                                                                                                                                            فيؤخذ منه أن ذلك ليس ترجيحا لمن هو على اليمين بل هو ترجيح لجهة اليمين ، وقد يعارض حديث أنس وسهل المذكورين حديث سهل بن أبي حثمة الذي تقدم في القسامة بلفظ " كبر كبر " وكذلك حديث ابن عباس الذي أخرجه أبو يعلى بسند قوي قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال : ابدءوا بالأكبر } ويجمع بأنه محمول على الحالة التي يجلسون فيها متساوين أما بين يدي الكبير أو عن يساره كلهم أو خلفه . قال ابن المنير : يؤخذ من هذا الحديث أنها إذا تعارضت فضيلة الفاضل وفضيلة الوظيفة اعتبرت فضيلة الوظيفة .

                                                                                                                                            قوله : ( ساقي القوم آخرهم شربا ) فيه دليل على أنه يشرع لمن تولى سقاية قوم أن يتأخر في الشرب حتى يفرغوا عن آخرهم .

                                                                                                                                            وفيه إشارة إلى أن كل من ولي من أمور المسلمين شيئا يجب عليه تقديم إصلاحهم على ما يخص نفسه ، وأن يكون غرضه إصلاح حالهم وجر المنفعة إليهم ودفع المضار عنهم ، والنظر لهم في دق أمورهم وجلها ، وتقديم مصلحتهم على مصلحته . وكذا من يفرق على القوم فاكهة ، فيبدأ بسقي كبير القوم أو بمن عن يمينه إلى آخرهم وما بقي شربه ، ولا معارضة بين هذا الحديث وحديث " ابدأ بنفسك " لأن ذاك عام وهذا خاص فيبنى العام على الخاص .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية