الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب الرقية من العين والاستغسال منها

                                                                                                                                            3793 - ( عن عائشة قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أسترقي من العين } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            3794 - ( وعن أسماء بنت عميس { أنها قالت : يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفنسترقي لهم ؟ قال : نعم ، فلو كان شيء سبق القدر لسبقته العين } رواه أحمد والترمذي وصححه ) [ ص: 247 ]

                                                                                                                                            3795 - ( وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { العين حق ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا } رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            3796 - ( وعن عائشة قالت : { كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغسل منه المعين } رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            3797 - ( وعن سهل بن حنيف { أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وسار معه نحو مكة ، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان رجلا أبيض حسن الجسم والجلد ، فنظر إليه عامر بن ربيعة أحد بني عدي بن كعب وهو يغتسل . فقال : ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة ، فلبط سهل ، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : يا رسول الله هل لك في سهل ؟ والله ما يرفع رأسه ، قال : هل تتهمون فيه من أحد ؟ قالوا : نظر إليه عامر بن ربيعة ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا فتغيظ عليه وقال : علام يقتل أحدكم أخاه ؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت ، ثم قال له : اغتسل له ، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم صب ذلك الماء عليه يصبه رجل على رأسه وظهره من خلفه ، ثم يكفأ القدح وراءه ففعل به ذلك ، فراح سهل مع الناس ليس به بأس } رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أسماء بنت عميس أخرجه أيضا النسائي ، ويشهد له حديث جابر المتقدم في الباب الأول . وحديث عائشة سكت عنه أبو داود والمنذري ، ورجال إسناده ثقات لأنه عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عنها . وحديث سهل أخرجه أيضا في الموطأ والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه ووقع في رواية ابن ماجه من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي أمامة " أن عامر بن ربيعة مر بسهل وهو يغتسل " فذكر الحديث . قوله : ( يأمرني أن أسترقي من العين ) أي من الإصابة بالعين

                                                                                                                                            قال المازري : أخذ الجمهور بظاهر الحديث ، وأنكره طوائف من المبتدعة لغير معنى ; لأن كل شيء ليس محالا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا فساد دليل فهو من مجوزات العقول ، فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن [ ص: 248 ] لإنكاره معنى ، وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به في الآخرة من الأمور قوله : ( فلو كان شيء سبق القدر لسبقته العين ) فيه رد على من زعم من المتصوفة أن قوله " العين حق " يريد به القدر : أي العين التي تجري منها الأحكام ، فإن عين الشيء حقيقته ، والمعنى أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر إنما هو بقدر الله السابق لا شيء يحدثه الناظر في المنظور

                                                                                                                                            ووجه الرد أن الحديث ظاهر في المغايرة بين القدر وبين العين ، وإن كنا نعتقد أن العين من جملة المقدور لكن ظاهره إثبات العين التي تصيب ، إما بما جعل الله تعالى فيها من ذلك وأودعه إياها . وإما بإجراء العادة بحدوث الضرر عند تحديد النظر ، وإنما جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين لا أنه يمكن أن يرد القدر ، إذ القدر عبارة عن سابق علم الله وهو لا راد لأمره ، أشار إلى ذلك القرطبي .

                                                                                                                                            وحاصله لو فرض أن شيئا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين ، لكنها لا تسبق فكيف غيرها ؟ وقد أخرج البزار من حديث جابر بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنفس } قال الراوي : يعني بالعين . قوله : ( العين حق ) أي شيء ثابت موجود من جملة ما تحقق كونه

                                                                                                                                            قوله : ( وإذا استغسلتم فاغسلوا ) أي إذا طلبتم للاغتسال فاغسلوا أطرافكم عند طلب المعيون ذلك من العائن ، وهذا كان أمرا معلوما عندهم ، فأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم ، وأدنى ما في ذلك رافع الوهم ، وظاهر الأمر الوجوب . وحكى المازري فيه خلافا وصحح الوجوب وقال : متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء فيه فإنه يتعين ، وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى ، ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الاغتسال

                                                                                                                                            قوله : ( بشعب الخرار ) بمعجمة ثم مهملتين . قال في القاموس : هو موضع قرب الجحفة قوله : ( فلبط ) بضم اللام وكسر الموحدة ، لبط الرجل فهو ملبوط : أي صرع وسقط إلى الأرض . قوله : ( وداخلة إزاره ) يحتمل أن يريد بذلك الفرج ، ويحتمل أن يريد طرف الإزار الذي يلي جسده من الجانب الأيمن

                                                                                                                                            وقد اختلف ذلك على قولين ذكرهما في الهدي ، وقد بين في هذا الحديث صفة الغسل قوله : ( ثم يكفأ القدح وراءه ) زاد في رواية " على الأرض " . قال المازري : هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل فلا يرد لكونه لا يعقل معناه . وقال ابن العربي : إن توقف فيه متشرع قلنا له : الله ورسوله أعلم

                                                                                                                                            وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة . قال ابن القيم : هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعلها مجربا غير معتقد ، وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الأطباء عللها ، بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما يفعل بالخاصة فما الذي ينكر جهلتهم من الخواص [ ص: 249 ] الشرعية ، هذا مع أن المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة ، فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها ، وهذا علاج النفس الغضبية توضع اليد على يد الغضبان فيسكن فكأن أثر تلك العين شعلة نار وقعت على جسد المعيون ، ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة

                                                                                                                                            ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها ولا شيء أرق من العين فكان في غسلها إبطال لعملها ولا سيما للأرواح الشيطانية في تلك المواضع

                                                                                                                                            وفيه أيضا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذا فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء ، وهذا الغسل المأمور به ينفع بعد استحكام النظرة ، فأما عند الإصابة وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة سهل بن حنيف المذكورة " ألا بركت عليه " وفي رواية ابن ماجه " فليدع بالبركة " ومثله عند ابن السني من حديث عامر بن ربيعة . وأخرج البزار وابن السني من حديث أنس رفعه " من رأى شيئا فأعجبه فقال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره "

                                                                                                                                            وقد اختلف في القصاص بذلك ، فقال القرطبي : لو أتلف العائن شيئا ضمنه ، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة وهو في ذلك كالساحر . قال الحافظ : ولم تتعرض الشافعية للقصاص في ذلك بل منعوه وقالوا : إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا وقال النووي في الروضة : ولا دية فيه ولا كفارة ، لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس في بعض الأحوال مما لا انضباط له ، كيف ولم يقع منه فعل أصلا وإنما غايته حسد وتمن لزوال نعمة ، وأيضا فالذي ينشأ عن الإصابة حصول مكرو لذلك الشخص ، ولا يتعين المكروه في زوال الحياة فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين . ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس ، وأن يلزم بيته ، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به ، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر بمنعه من مخالطة الناس ، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة

                                                                                                                                            قال النووي : هذا القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه




                                                                                                                                            الخدمات العلمية