الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 423 ] ولا تقبل شهادة الأعمى ، ولا المحدود ( س ز ) في قذف وإن تاب ، ولو حد الكافر في قذف ثم أسلم قبلت شهادته ، ولا تقبل الشهادة للولد وإن سفل ، ولا للوالد وإن علا ، ولا لعبده ، ولا لمكاتبه ، ولا للزوج ( ف ) والزوجة ( ف ) ، ولا أحد الشريكين للآخر فيما هو من شركتهما ، ولا شهادة الأجير الخاص ; ولا تقبل شهادة مخنث ولا نائحة ، ولا من يغني للناس ، ولا مدمن الشرب على اللهو ، ولا من يلعب بالطيور ، ولا من يفعل كبيرة توجب الحد ، ولا من يأكل الربا ، ولا من يقامر بالشطرنج ولا من يدخل الحمام بغير إزار ، ولا من يفعل الأفعال المستخفة كالبول والأكل على الطريق ، ولا من يظهر سب السلف ، ولا شهادة العدو إن كانت العداوة بسبب الدنيا ، وتقبل إن كانت بسبب الدين ، وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض . ولا تقبل شهادة المستأمن على الذمي ، وتقبل ( ف ) شهادة الذمي عليه ، وتقبل شهادة الأقلف ، والخصي والخنثى وولد الزنا ، والمعتبر حال الشاهد وقت الأداء لا وقت التحمل . وإذا كانت الحسنات أكثر من السيئات قبلت الشهادة .

التالي السابق


[ ص: 423 ] فصل

كل من ردت شهادته للرق أو الكفر أو للصبا ثم زالت هذه الموانع فأداها قبلت ، ولو ردت لفسق أو زوجية أو العبد لمولاه أو المولى لعبده ثم زالت فأداها لم تقبل . والفرق أن الأولى ليست بشهادة لعدم الأهلية فلم يكن الرد تكذيبا شرعا ، والثانية شهادة لقيام الأهلية فكان تكذيبا فلا تقبل أبدا ، لو تحملها العبد لمولاه أو أحد الزوجين للآخر فأداها بعد العتق والبينونة قبلت ، وكذلك إن تحملها وهو عبد أو كافر أو صبي فأداها بعد زوال هذه العوارض قبلت ؛ لأن المعتبر حالة الأداء لما يأتي ولا مانع حالتئذ .

قال : ( ولا تقبل شهادة الأعمى ) وقال زفر : تقبل فيما يجرى فيه التسامع لأنه يسمع . وقال أبو يوسف : إن كان بصيرا وقت التحمل تقبل موجود العلم بالنظر ، وعند الأداء يحتاج إلى القول وهو قادر عليه ويعرفه بالنسبة كما في الميت . ولنا أنه لا يقدر على التمييز بين الأشخاص ولا على الإشارة ، والنسبة لتعريف الغائب دون الحاضر ولو عمي بعد الأداء قبل القضاء لا يقضي بها عندهما ، لأن أهلية الشهادة شرط وقت القضاء ليصير حجة ، كما إذا جن أو فسق ، بخلاف الموت فإنه منه للأهلية والغيبة لا تفوت بها الأهلية ، ولا تقبل شهادة الأخرس ؛ لأن الشهادة بالنطق وهو عاجز عنه .

قال : ( ولا المحدود في قذف وإن تاب ) لقوله تعالى : ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) ولأنه من تمام الحد لأنه مانع فيبقى بعد التوبة .

أما المحدود في غير القذف فالرد ليس من الحد وإنما هو للفسق ، وقد ارتفع بالتوبة ، والاستثناء في الآية منقطع أو هو مصروف إلى الأقرب وهو الفسق .

( ولو حد الكافر في قذف ثم أسلم قبلت شهادته ) لأن بالإسلام حدثت له شهادة أخرى غير التي كانت قبله ، فلا يكون الحد في إسقاط الأولى إسقاطا في الثانية ، لأنها لم تكن موجودة .

قال : ( ولا تقبل الشهادة للولد وإن سفل ، ولا للوالد وإن علا ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " ولا تجوز شهادة الوالد لولده ، ولا الولد لوالده ، ولا المرأة لزوجها ، ولا الزوج لامرأته ، ولا العبد [ ص: 424 ] لسيده ، ولا السيد لعبده ولا الشريك لشريكه ، ولا الأجير لمن استأجره " روي ذلك بأحاديث مختلفة بهذه الألفاظ ولأن المنافع بينهم متصلة حتى لا يجوز دفع الزكاة إليهم فيكون شهادة لنفسه من وجوه ، ومحرمية الرضاع لا تمنع قبول الشهادة لأنه لا جزئية بينهما فانتفت التهمة ، وتقبل شهادة القرابات كالأخ والعم والخال وما سوى قرابة الولاد لعدم ما ذكرنا .

قال : ( ولا لعبده ) لما روينا ، ولأن العبد لا يملك فتقع الشهادة لنفسه .

( ولا لمكاتبه ) لأن أكسابه له من وجه والعبد المديون كالمكاتب .

قال : ( ولا للزوج والزوجة ) لما روينا ، ولأن المنافع بينهما متصلة عادة فتقع لنفسه من وجه .

( ولا أحد الشريكين للآخر فيما هو من شركتهما ) لما روينا ولأنها تقع لنفسه .

( ولا شهادة الأجير الخاص ) لما روينا ، ولأنه يستحق الأجرة في مدة أداء الشهادة ، فصار كالمستأجر لأداء الشهادة .

قال : ( ولا تقبل شهادة مخنث ولا نائحة ، ولا من يغني للناس ) لأن ذلك فسق : " لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوتين أحمقين : النائحة ، والمغنية " والمراد المخنث الذي يفعل الأفعال الرديئة ، وأنه معصية قال - عليه الصلاة والسلام - : " لعن الله المؤنثات من الرجال ، والمذكرات من النساء " أما اللين في الكلام خلقة فتقبل شهادته .

قال : ( ولا مدمن الشرب على اللهو ) لأنه محرم .

قال محمد : من شرب النبيذ متأولا قبلت شهادته ما لم يسكر أو يكن على اللهو .

( ولا من يلعب بالطيور ) لأنه يوجب غفلة ويطلع على العورات بالطلوع على السطوحات .

قال : ( ولا من يفعل كبيرة توجب الحد ) لفسقه .

[ ص: 425 ] ( ولا من يأكل الربا ) لأنه حرام ، وشرط بعضهم الإدمان عليه لأنه قل ما يخلو عن العقد الفاسد .

( ولا من يقامر بالشطرنج ) لأنه حرام . أما نفس اللعب لا يسقط العدالة لمكان الاجتهاد إلا أن تفوته الصلاة أو يحلف عليه كذبا .

قال : ( ولا من يدخل الحمام بغير إزار ) لفسقه بإبداء عورته .

( ولا من يفعل شيئا من الأفعال المستخفة كالبول والأكل على الطريق ) لأنه يسقط المروءة فلا يتحاشى عن الكذب ، وكذا من يمشي في السوق بالسراويل وحده ، وكذلك المناهدة مع الابن في السفر .

قال : ( ولا من يظهر سب السلف ) لفسقه بخلاف من يكتمه ، ولا الشتام للناس والجيران .

قال أبو يوسف : لا أجيز شهادة من شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن ذلك فعل الأسقاط وأوضاع الناس ، وأقبل شهادة الذين تبرؤوا منهم ؛ لأنه يفعل ذلك تدينا وإن كان باطلا .

( ولا شهادة العدو إن كانت العداوة بسبب الدنيا ) لأنه لا يؤمن عليه الكذب .

( وتقبل إن كانت بسبب الدين ) لأنه لا يكذب لدينه كأهل الأهواء ، ولا تقبل شهادة تارك الجمع والجماعات مجانة ، واشترط بعضهم لذلك ترك الجمعة ثلاث مرات ، وقال الخصاف مرة . وإن تركها لعذر مرض أو بعد من المصر أو بتأويل بأن كان يفسق الإمام لا ترد شهادته ولا تقبل شهادة من يجلس مجالس الفجور . قال محمد : العدل الذي لم يظهر ريبة .

قال محمد : موسر أخر الزكاة والحج إن كان صالحا قبلت شهادته لأنهما لا وقت لهما ، وما كان له وقت كالصوم والصلاة ترد شهادته بالتأخير . وقال أبو يوسف : أقبل شهادة الشاعر ما لم يقذف في شعره المحصنات ، وقال العدل : هو الذي غلبت حسناته على سيئاته ، ولا يمكن اشتراط السلامة عن كل مأثم ، قال الله تعالى : ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ) وهذا يدل على أن العبد قل ما يسلم عن ذلك ولا تقبل شهادة النخاسين والدلالين لأنهم [ ص: 426 ] يكذبون ، وتقبل شهادة أهل جميع الصنائع كلها إذا كانوا عدولا إلا إذا كان يجري بين الحلف والأيمان الفاجرة . ومن يجن ويفيق فشهادته جائزة حال إفاقته ، وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية وهم قوم من الرافضة يستجيزون الشهادة لكل من يحلف عندهم ؛ لأنهم يرون حرمة الكذب ، وقيل يرون الشهادة لشيعتهم واجبة ، ولا تقبل شهادة المجسمة لأنهم كفرة ، ومن لا يكفر من أهل الأهواء تقبل شهادتهم . ألا يرى أن الصحابة - رضي الله عنهم - اختلفوا واقتتلوا ، وشهادة بعضهم على بعض كانت مقبولة ، وليس ما بين أهل الأهواء من الاختلاف أكثر ما كان بينهم من القتال ، بخلاف الفاسق عملا ؛ لأنه ارتكب محظور دينه فيرتكب الكذب ، وهذا يعتقد ما يفعله حقا يبين به الله تعالى فيمتنع عن الكذب .

قال : ( وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ) لأن الشهادة من باب الولاية ، وهم أهل الولاية بعضهم على بعض ، ولهذا قلنا لا تقبل شهادتهم على المسلم لعدم ولايتهم عليه وفسقه من حيث الاعتقاد فلا يمنع قبول الشهادة لأنه يجتنب محرم دينه ، والكذب محرم في جميع الأديان . وعن يحيى بن أكثم قال : اجتمعت أقاويل السلف على قبول شهادة النصارى بعضهم على بعض ، فلم أجد أحدا رد شهادتهم غير ربيعة بن عبد الرحمن ، فإني وجدت عنه روايتين ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - رجم يهوديين بشهادة اليهود ; ومللهم وإن اختلفت فهم متفقون في الكفر بالله تعالى وتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجمعهم دار واحدة ، بخلاف عدم قبول شهادة الروم على الهند وبالعكس لانقطاع الولاية باختلاف الدارين وبخلاف المرتد لأنه لا ولاية له على أحد .

( ولا تقبل شهادة المستأمن على الذمي ) لعدم الولاية .

( وتقبل شهادة الذمي عليه ) لأن ولايته ثابتة في دارنا على نفسه وأولاده الصغار فتكون ثابتة في جنسه .

قال : ( وتقبل شهادة الأقلف ) لأن ترك السنة لا يوجب الفسق إلا إذا تركه رغبة عن السنة ، ولو تركه بعد ما كبر لا يفسق لأنه تركه صيانة لمهجته لا رغبة عن السنة .

[ ص: 427 ] قال : ( والخصي ) لأنه قطع عضو منه فصار كغيره من الأعضاء ، وعمر - رضي الله عنه - قبل شهادة علقمة الخصي .

قال : ( والخنثى ) لأنه إما رجل أو امرأة .

قال : ( وولد الزنا ) لأن فسق الأبوين لا يوجب فسقه ككفرهما وإسلامه ، إذ الكلام في العدل .

قال : ( والمعتبر حال الشاهد وقت الأداء لا وقت التحمل ) لأن العمل بها والإلزام حالة الأداء فتعتبر الأهلية والولاية عنده .

قال : ( وإذا كانت الحسنات أكثر من السيئات قبلت الشهادة ) لما مر ، ولا بد من اجتناب الكبائر أجمع غير مصر على الصغائر ، ويكون صلاحه أكثر من فساده ، معتاد الصدق ، مجتنبا الكذب ، يخاف هتك الستر ، صحيح المعاملة ، في الدينار والدرهم ، مؤديا للأمانة ، قليل اللهو والهذيان . قال عمر - رضي الله عنه - : لا يغرنكم طنطنة الرجل في صلاته ، وانظروا إلى حاله عند درهمه وديناره . أما الإلمام بمعصيته لا يمنع قبول الشهادة ، لما في اعتبار ذلك من سد باب الشهادة .



فصل

اعلم أن الجرح مقدم على التعديل ، لأن الجارح اعتمد دليلا وهو العيان لارتكابه محظور دينه ، والمعدل شهد بالظاهر ولم يعتمد على دليل ، ولو عدله واحد وجرحه آخر فالجرح أولى ، فإن عدله آخر فالتعديل أولى لأنه حجة كاملة ، وهو عدله جماعة وجرحه اثنان فالجرح أولى لاستوائهما في الثبوت ؛ لأن زيادة العدد لا توجب الترجيح ، ولا يسمع القاضي الشهادة على الجرح قصدا ولا يحكم بها لأن الحكم للإلزام وأنه يرتفع بالتوبة ، ولأن فيه هتكه ، والستر واجب ، ولو شهدوا على إقرار المدعي بذلك سمعها ؛ لأن الإقرار يدخل تحت الحكم ، ويظهر أثره في حق المدعي ، ولو أقام المدعى عليه بينة أن المدعي استأجر الشهود لأداء الشهادة لا تقبل ، لأنها على الجرح خاصة ، إذ لا خصم في إثبات الإجارة حتى لو قال استأجرهم بدراهم ودفعها إليهم من مالي الذي في يده قبلت لأنه خصم ، ثم يثبت الجرح بناء عليه ، وكذلك لو قال : صالحتهم على مال دفعته إليهم لئلا يشهدوا بهذا الباطل وطالبهم برد ذلك المال وأقام البينة على ذلك لما قلنا ، ولو [ ص: 428 ] قال : لم أسلم المال إليهم لم تقبل ، ولو أقام البينة أن الشاهد عبد أو محدود في قذف أو شارب خمر أو سارق أو شريك المدعي أو أجيره ونحو ذلك قبلت ؛ لأن ذلك مما يدخل تحت الحكم لأنه يتضمن حق الشرع وهو الحدود أو حق العبد .

قال الخصاف : وأسباب الجرح كثيرة : منها الركوب في البحر ، والتجارة إلى أرض الكفار ، وفي قرى فارس وأشباهه ؛ لأنه خاطر بدينه ونفسه حيث سكن دار الحرب وكثر سوادهم لينال بذلك مالا فلا يؤمن أن يكذب بأخذ المال وقرى فارس يطعمون الربا وهم لا يعلمون .




الخدمات العلمية