الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب بيع الغرر

                                                                                                          حدثني يحيى عن مالك عن أبي حازم بن دينار عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر قال مالك ومن الغرر والمخاطرة أن يعمد الرجل قد ضلت دابته أو أبق غلامه وثمن الشيء من ذلك خمسون دينارا فيقول رجل أنا آخذه منك بعشرين دينارا فإن وجده المبتاع ذهب من البائع ثلاثون دينارا وإن لم يجده ذهب البائع من المبتاع بعشرين دينارا قال مالك وفي ذلك عيب آخر إن تلك الضالة إن وجدت لم يدر أزادت أم نقصت أم ما حدث بها من العيوب فهذا أعظم المخاطرة قال مالك والأمر عندنا أن من المخاطرة والغرر اشتراء ما في بطون الإناث من النساء والدواب لأنه لا يدرى أيخرج أم لا يخرج فإن خرج لم يدر أيكون حسنا أم قبيحا أم تاما أم ناقصا أم ذكرا أم أنثى وذلك كله يتفاضل إن كان على كذا فقيمته كذا وإن كان على كذا فقيمته كذا قال مالك ولا ينبغي بيع الإناث واستثناء ما في بطونها وذلك أن يقول الرجل للرجل ثمن شاتي الغزيرة ثلاثة دنانير فهي لك بدينارين ولي ما في بطنها فهذا مكروه لأنه غرر ومخاطرة قال مالك ولا يحل بيع الزيتون بالزيت ولا الجلجلان بدهن الجلجلان ولا الزبد بالسمن لأن المزابنة تدخله ولأن الذي يشتري الحب وما أشبهه بشيء مسمى مما يخرج منه لا يدري أيخرج منه أقل من ذلك أو أكثر فهذا غرر ومخاطرة قال مالك ومن ذلك أيضا اشتراء حب البان بالسليخة فذلك غرر لأن الذي يخرج من حب البان هو السليخة ولا بأس بحب البان بالبان المطيب لأن البان المطيب قد طيب ونش وتحول عن حال السليخة قال مالك في رجل باع سلعة من رجل على أنه لا نقصان على المبتاع إن ذلك بيع غير جائز وهو من المخاطرة وتفسير ذلك أنه كأنه استأجره بربح إن كان في تلك السلعة وإن باع برأس المال أو بنقصان فلا شيء له وذهب عناؤه باطلا فهذا لا يصلح وللمبتاع في هذا أجرة بمقدار ما عالج من ذلك وما كان في تلك السلعة من نقصان أو ربح فهو للبائع وعليه وإنما يكون ذلك إذا فاتت السلعة وبيعت فإن لم تفت فسخ البيع بينهما قال مالك فأما أن يبيع رجل من رجل سلعة يبت بيعها ثم يندم المشتري فيقول للبائع ضع عني فيأبى البائع ويقول بع فلا نقصان عليك فهذا لا بأس به لأنه ليس من المخاطرة وإنما هو شيء وضعه له وليس على ذلك عقدا بيعهما وذلك الذي عليه الأمر عندنا

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          34 - باب بيع الغرر

                                                                                                          الغرر اسم جامع لبياعات كثيرة ، كجهل ثمن ومثمن وسمك في ماء وطير في الهواء .

                                                                                                          وعرفه المازري بأنه ما تردد بين السلامة والعطب ، وتعقبه ابن عرفة بأنه غير جامع [ ص: 468 ] لخروج الغرر الذي في فاسد بيع الجزاف وبيعتين في بيعة ، وعرفه بأنه ما شك في حصول أحد عوضيه والمقصود منه غالبا .

                                                                                                          1370 1354 - ( مالك عن أبي حازم ) سلمة ( بن دينار ) المدني أحد الأعلام ( عن سعيد بن المسيب ) مرسلا باتفاق رواة مالك فيما علمت .

                                                                                                          ورواه أبو حذافة عن مالك عن نافع عن ابن عمر وهذا منكر والصحيح ما في الموطأ ، ورواه ابن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد وهو خطأ ، وليس ابن أبي حازم بحجة إذا خالفه غيره وهو لين الحديث ليس بحافظ ، وهذا الحديث محفوظ عن أبي هريرة ومعلوم أن ابن المسيب من كبار رواته قاله ابن عبد البر ، وقد رواه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر ) لأنه من أكل أموال الناس بالباطل على تقدير أن لا يحصل المبيع ، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على هذه العلة في بيع الثمار قبل بدو الصلاح بقوله : " أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأكل أحدكم مال أخيه " قاله المازري ، وقيل علته ما يؤدي إليه من التنازع بين المتبايعين ، ورد بأن كثيرا من صور بيع الغرر عري من التنازع كبيع الآبق والثمر قبل بدو الصلاح ، وقيل العلة الغرر لاشتماله على حكمة هي عجز البائع عن التسليم وهو ما أشار إليه المازري من ذهاب المال باطلا على تقدير عدم الحصول ، وهذا كتعليل القصر بوصف السفر لاشتماله على حكمة درء المشقة ، وكان بعضهم ينكر على فقهاء وقته يقول : تعللوه بالغرر ولا تعرفون وجه العلة فيه .

                                                                                                          قال المازري : أجمعوا على فساد بيع الغرر كجنين والطير في الهواء والسمك في الماء ، وعلى صحة بعضها كبيع الجبة المحشوة وإن كان حشوها لا يرى ، وكراء الدار شهرا مع احتمال نقصانه وتمامه ، ودخول الحمام مع اختلاف لبثهم فيه والشرب من فم السقاء مع اختلاف الشرب ، واختلفوا في بعضها فوجب أن يفهم أنهم إنما منعوا ما أجمعوا على منعه لقوة الغرر وكونه مقصودا ، وإنما أجازوا ما أجمعوا على جوازه ليسارته مع أنه لم يقصد وتدعو الضرورة إلى العفو عنه ، وإذا ثبت ما استنبطناه من هذين الأصلين وجب رد المسائل المختلف فيها بين فقهاء الأمصار إليها ، فالمجيز رأى الغرر قليلا لم يقصد ، والمانع رآه كثيرا مقصودا اهـ .

                                                                                                          وسبقه لنحوه الباجي فإن شك في يسارة الغرر فالمنع أقرب لظاهر الحديث ولأن شرط البيع علم صفة المبيع والغرر يمنع ذلك ، فالشك في يسارته شك في الشرط قادح ، نعم يحتمل أن يقال إنه مانع والشك في المانع لا يقدح ويرد الجواز أن أكثر البياعات لا تخلو عن قليل [ ص: 469 ] غرر ، والقاعدة أنه إذا شك في صورة أن تلحق بأكثر نوعها وأكثر نوعها اليسير المغتفر يعارضه أن أكثر صور الفاسد لا يخلو عن غرر كثير ، فليس إلحاقه بصورة الجواز أولى من إلحاقه بصورة المنع قاله أبو عبد الله التونسي واعترض على المازري في قيد اليسارة بالضرورة ، وأجاب عنه غيره بما في إيراده طول .

                                                                                                          ( قال مالك : ومن الغرر والمخاطرة أن يعمد ) بكسر الميم يقصد ( الرجل ) حال كونه ( قد ضلت دابته أو أبق غلامه وثمن الشيء من ذلك ) المذكور من دابة وغلام ( خمسون دينارا فيقول رجل : أنا آخذه منك بعشرين دينارا فإن وجده المبتاع ذهب من البائع ثلاثون دينارا ، وإن لم يجده ذهب البائع من المبتاع بعشرين دينارا ) وذلك من أكل المال بالباطل .

                                                                                                          ( وفي ذلك أيضا عيب آخر أن تلك الضالة إن وجدت ) بالبناء للمفعول وكذا ( لم يدر أزادت أم نقصت أم ما حدث بها من العيوب فهذا أعظم المخاطرة ) فلذلك فسد البيع وضمانه من بائعه ويفسخ وإن قبض .

                                                                                                          ( قال مالك : والأمر عندنا أن من المخاطرة والغرر اشتراء ما في بطون الإناث من النساء والدواب لأنه لا يدرى أيخرج أم لا يخرج ؟ فإن خرج لم يدر أيكون حسنا أم قبيحا أم تاما أم ناقصا أم ذكرا أم أنثى ؟ وذلك كله يتفاضل لأنه إن كان على كذا فقيمته كذا وإن كان على ) صفة ( كذا فقيمته كذا ) وهذا لا خلاف فيه لأنه غرر مجهول ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الغرر وعن بيع الملامسة والحصاة وحبل الحبلة ، وفي حديث : " وعن بيع ما في بطون الإناث " قاله أبو عمر .

                                                                                                          ( قال مالك : ولا ينبغي بيع الإناث واستثناء ما في بطونها وذلك ) أي وجه المنع ( أن يقول الرجل [ ص: 470 ] للرجل : ثمن شاتي الغزيرة ) كثيرة اللبن ( ثلاثة دنانير فهي لك بدينارين ولي ما في بطنها فهذا مكروه ) أي حرام ( لأنه غرر ومخاطرة ) أما على أن المستثنى مبيع فبين ، وأما على أنه مبقى فلأن الجملة المرئية إذا استثني منها مجهول متناهي الجهالة أثر ذلك في باقي الجملة جهالة تمنع صحة عقد البيع عليها قاله الباجي .

                                                                                                          ( ولا يحل بيع الزيتون بالزيت ولا الجلجلان ) بضم الجيمين بينهما لام ساكنة ثم لام فألف فنون السمسم في قشره قبل أن يحصد ( بدهن الجلجلان ولا الزبد بالسمن لأن المزابنة تدخله ) إذ لا يدرى هل يخرج مثل ما أعطى أم لا .

                                                                                                          ( ولأن الذي يشتري الحب وما أشبهه بشيء مسمى مما يخرج منه لا يدري أيخرج منه أقل من ذلك أو أكثر فهذا غرر ومخاطرة ) وبهذا قال أكثر العلماء والشافعي وأحمد .

                                                                                                          ( ومن ذلك أيضا اشتراء حب البان بالسليخة ) بفتح السين المهملة والخاء المعجمة ، قال المجد : دهن ثمر البان قبل أن يزيت ( فذلك غرر لأن الذي يخرج من حب البان هو السليخة ) وذلك مجهول ( ولا بأس بحب البان بالبان المطيب ; لأن البان المطيب قد طيب ونش ) بضم النون وبالشين المعجمة أي خلط ، يقال : دهن منشوش أي مخلوط ( وتحول عن حال السليخة ) أي صفتها فيجوز كلحم طبخ بتابل فيجوز يدا بيد متفاضلا ومتساويا .

                                                                                                          ( قال مالك في رجل باع سلعة من رجل على أنه لا نقصان على المبتاع ، إن ذلك بيع غير جائز وهو من المخاطرة ) أي الغرر .

                                                                                                          ( وتفسير ذلك أنه كأنه استأجره بربح إن كان ) أي وجد ( في تلك السلعة وإن باع برأس المال أو بنقصان فلا شيء له وذهب عناؤه ) بالمد تعبه ( باطلا [ ص: 471 ] فهذا لا يصلح ، وللمبتاع في هذا أجرة بمقدار ) وفي نسخة بقدر ( ما عالج من ذلك ) أي أجرة مثله ( وما كان في تلك السلعة من نقصان أو ربح فهو للبائع وعليه ) لبقاء السلعة على ملكه لفساد البيع .

                                                                                                          ( وإنما يكون ذلك إذا فاتت السلعة وبيعت فإن لم تفت فسخ البيع بينهما ) لفساده بجهل الثمن ، ( وأما أن يبيع رجل من رجل سلعة يبت بيعهما ) أي عقداه على اللزوم والقطع ( ثم يندم المشتري فيقول للبائع : ضع ) أسقط ( عني فيأبى ) يمتنع ( البائع ويقول بع فلا نقصان عليك فهذا لا بأس به لأنه ليس من المخاطرة ) لوقوعه بعد بت البيع ( وإنما هو شيء وصفه له ) أي لأجله ( وليس على ذلك عقدا بيعهما وذلك الذي عليه الأمر عندنا ) وهو عدة ، اختلف قول مالك في القضاء بها ، فقال مالك في كتاب ابن مزين : وذلك له لزم ووجهه أنه حمله بما وعده على بيع سلعته فلزمه ذلك .

                                                                                                          وقال ابن وهب : ينقصه بحسب ما يشبه من ثمن السلعة إن نقص من ثمنها ، وقال أشهب : يرضيه بحسب ما نوى ، وقال ابن حبيب : جعله مالك مرة إجارة فاسدة أي كما هنا ومرة بيعا فاسدا .

                                                                                                          وبه قال ابن الماجشون وابن القاسم وأصبغ وبه أقول وهو القياس إذ لو وطئها لم يحد ، ولو كان إجارة لحد وهي في ضمانه من يوم القبض ، وأجاب ابن زرقون بأنه إنما لم يحد على أنها إجارة فاسدة مراعاة للقول إنه بيع فاسد ولاسم البيع الذي قصداه .




                                                                                                          الخدمات العلمية