الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                فأما حكم جناية الرهن على الرهن فنقول وبالله التوفيق : جناية الرهن على الرهن نوعان : جناية على الرهن نفسه ، وجناية على جنسه .

                                                                                                                                أما جنايته على نفسه : فهي والهلاك بآفة سماوية سواء ، ثم ينظر إن كان العبد كله مضمونا ، سقط من الدين بقدر النقصان ، وإن كان بعضه مضمونا وبعضه أمانة ، سقط من الدين قدر ما انتقص من المضمون لا من الأمانة وأما جناية الرهن على نفسه فعلى ضربين أيضا : جناية بني آدم على جنسه ، وجناية البهيمة على جنسها وعلى غير جنسها .

                                                                                                                                أما جناية بني آدم على جنسه : بأن كان الرهن عبدين فجنى أحدهما على صاحبه فالعبدان لا يخلو أما إن كانا رهنا في صفقة واحدة ، وإما إن كانا رهنا في صفقتين فإن كانا رهنا في صفقة واحدة فجنى أحدهما على صاحبه ، فجنايته لا تخلو من أربعة أقسام : جناية المشغول على المشغول وجناية المشغول على الفارغ وجناية الفارغ على الفارغ وجناية الفارغ على المشغول ، والكل هدر إلا واحدة : وهي جناية الفارغ على المشغول ، فإنها معتبرة ، ويتحول ما في المشغول من الدين إلى الفارغ ، ويكون رهنا مكانه .

                                                                                                                                أما جناية المشغول على المشغول ; فلأنها لو اعتبرت إما أن تعتبر لحق المولى أعني الراهن ، وإما أن تعتبر لحق المرتهن والاعتبار لحق الرهن لا سبيل إليه في الفصول كلها ; لأن كل واحد منهما ملكه ، وجناية المملوك على المملوك ساقطة الاعتبار لحق المالك ; لأن اعتبارها في حقه لوجوب الدفع عليه أو الفداء له ، وإيجاب شيء على الإنسان لنفسه ممتنع ; ولهذا لا يجب للمولى على عبده دين ، ولا سبيل إلى اعتبار جناية المشغول على المشغول لحق المرتهن ; لأن الاعتبار لحقه يحول ما في المجني عليه من الدين إلى الجاني ، والجاني مشغول بدين نفسه ، والمشغول بنفسه لا يشتغل بغيره .

                                                                                                                                وكذلك جناية المشغول على الفارغ ; لما قلنا .

                                                                                                                                وأما جناية الفارغ على الفارغ ; فلأنه لا دين للفارغ ليتحول إلى الجاني فلا يفيد اعتبارها في حقه .

                                                                                                                                وأما جناية الفارغ على المشغول فممكن الاعتبار لحق يتحول ما فيه من الدين إلى الفارغ ، وبيان هذه الجملة في مسائل : إذا كان الدين ألفين والرهن عبدين ، يساوي كل واحد منهما ألفا فقتل أحدهما صاحبه أو جنى عليه جناية فيما دون النفس مما قل أرشها أو كثر فجنايته هدر ويسقط الدين الذي كان في المجني عليه بقدره ، ولا يتحول قدر ما سقط إلى الجاني ; لأن كل واحد منهما مشغول كله بالدين وجناية المشغول على المشغول هدر فجعل كأن المجني عليه هلك بآفة سماوية ولو كان الدين ألفا فقتل أحدهما صاحبه ، فلا دفع ولا فداء ، وكان القاتل رهنا بسبعمائة وخمسين ; لأن في كل واحد منهما من الدين خمسمائة ، فكان نصف كل واحد منهما فارغا ونصفه مشغولا ، فإذا قتل أحدهما صاحبه ، فقد جنى كل واحد من نصفي القاتل على النصف المشغول والنصف الفارغ من المجني عليه .

                                                                                                                                وجناية قدر المشغول على المشغول وقدر المشغول على الفارغ وقدر الفارغ على الفارغ هدر ; لما بينا ، فيسقط ما كان فيه شيء من الدين ولا يتحول إلى الجاني ، وجناية قدر الفارغ على قدر المشغول معتبرة ، فيتحول قدر ما كان فيه إلى الجاني ، وذلك مائتان وخمسون ، وقد كان في الجاني خمسمائة فيبقى رهنا بسبعمائة وخمسين .

                                                                                                                                ولو فقأ أحدهما عين صاحبه ، تحول نصف ما كان من الدين في العين إلى الباقي فيصير الباقي رهنا بستمائة وخمسة وعشرين ، وبقي المفقوء عينه رهنا بمائتين وخمسين ; لأن العبد الفاقئ جنى على نصف العبد الآخر ; لأن العين من الآدمي نصفه ، إلا أن ذلك النصف نصفه مشغول بالدين ونصفه فارغ من الدين ، والفاقئ جنى على النصف المشغول والفارغ جميعا ، والفاقئ نصفه مشغول ونصفه فارغ إلا أن جناية المشغول على قدر المشغول والفارغ ، وجناية الفارغ على قدر الفارغ والمشغول ، فقدر جناية الفارغ على قدر المشغول معتبرة فيتحول قدر ما كان في المشغول من الدين إلى الفاقئ ، وذلك مائة وخمسة [ ص: 170 ] وعشرون ، وقد كان في الفاقئ خمسمائة فيصير الفاقئ رهنا بستمائة وخمسة وعشرين ، ويبقى المفقوء عينه رهنا بمائتين وخمسين ; لانعدام ورود الجناية على ذلك النصف والله عز وجل أعلم .

                                                                                                                                وإن كان العبدان رهنا في صفقتين فإن كان فيهما فضل على الدين ، بأن كان الدين ألفا وقدر كل واحد منهما ألفا فقتل أحدهما الآخر تعتبر الجناية رهنا بخلاف الفصل الأول ; لأن الصفقة إذا تفرقت ، صارت بمنزلة ما لو رهن كل واحد منهما رجلا على حدة ، فجنى أحدهما على الآخر وهناك يثبت حكم الجناية كذا ههنا بخلاف ما إذا اتحدت الصفقة وإذا اعتبرت الجناية هنا ، يخير الراهن والمرتهن فإن شاءا جعلا القاتل مكان المقتول فيبطل ما كان في القتل من الدين ، وإن شاءا فديا القاتل بقيمة المقتول ويكون رهنا مكان المقتول ، والقاتل رهن على حاله وإن لم يكن فيهما فضل على الدين بأن كان الدين ألفين وقيمة كل واحد منهما ألفا ، فقتل أحدهما الآخر فإن دفعاه في الجناية ، قام المدفوع مقام المقتول ويبطل الدين الذي كان في القاتل ، وإن قالا : نفدي ، فالفداء كله على المرتهن ، بخلاف الفصل الأول ; لأن هناك كل واحد منهما ليس بمضمون كله بل بعضه ، وهنا كل واحد منهما مضمون كله ، فإذا حل الدين دفع الراهن ألفا وأخذ عبده ، وكانت الألف الأخرى قصاصا بهذه الألف إذا كان مثله .

                                                                                                                                ولو فقأ أحدهما عين الآخر ، قيل لهما : ادفعاه أو افدياه ، فإن دفعاه بطل ما كان فيه من الدين ، وإن فدياه كان الفداء عليهما نصفين وكان الفداء رهنا مع المفقوء عينه ; لأن الجناية معتبرة ; لما ذكرنا ، فصار كعبد الرهن إذا جنى على عبد أجنبي فإن قال المرتهن : أنا لا أفدي ولكني أدع الرهن على حاله فله ذلك ، وكان الفاقئ رهنا مكانه على حاله ، وقد ذهب نصف ما كان في المفقوء من الدين ; لأن اعتبار الجناية إنما كان لحق المرتهن لا لحق الراهن ، فإذا رضي المرتهن بهدر الجناية ، صار هدرا .

                                                                                                                                وإن قال الراهن : أنا أفدي ، وقال المرتهن : لا أفدي ، كان للراهن أن يفديه ، وهذا إذا طلب المرتهن حكم الجناية ; لأنه إذا طلب حكم الجناية فحكمها التخيير وإن أبى الراهن الفداء وقال المرتهن : أنا أفدي والراهن حاضر أو غائب ، فهو على ما بينا في العبد الواحد .

                                                                                                                                ( وأما ) جناية البهيمة على جنسها : فهي هدر ; لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : { جرح العجماء جبار } أي هدر ، والعجماء : البهيمة ، والجناية إذا هدرت ، سقط اعتبارها وصار الهلاك بها والهلاك بآفة سماوية سواء ، وكذلك جنايتها على خلاف جنسها هدر ; لعموم الحديث وأما جناية بني آدم عليها فحكمها وحكم جنايته على سائر الأموال سواء ، وقد بينا ذلك .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية