الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما شرائط الوجوب فأنواع منها الإنكار لأنها وجبت للحاجة إلى دفع التهمة وهي تهمة الكذب في الإنكار فإذا كان مقرا لا حاجة لأن الإنسان لا يتهم في الإقرار على نفسه ثم الإنكار نوعان نص ودلالة أما النص فهو صريح الإنكار وأما الدلالة فهو السكوت عن جواب المدعي عن غير آفة لأن الدعوى أوجبت الجواب عليه والجواب نوعان إقرار وإنكار فلا بد من حمل السكوت على [ ص: 226 ] أحدهما والحمل على الإنكار أولى لأن العاقل المتدين لا يسكت عن إظهار الحق المستحق لغيره مع قدرته عليه وقد يسكت عن إظهار الحق لنفسه مع قدرته عليه فكان حمل السكوت على الإنكار أولى فكان السكوت إنكارا دلالة ولو لم يسكت المدعى عليه ولم يقر ولكنه قال لا أقر ولا أنكر وأصر على ذلك اختلف المشايخ فيه قال بعضهم هذا إنكار .

                                                                                                                                وقال بعضهم هذا إقرار والأول أشبه لأن قوله لا أنكر إخبار عن السكوت عن الجواب والسكوت إنكار على ما مر ومنها الطلب من المدعي لأنها وجبت على المدعى عليه حقا للمدعي وحق الإنسان قبل غيره واجب الإيفاء عند طلبه ، ومنها عدم البينة الحاضرة عند أبي حنيفة وعندهما ليس بشرط حتى لو قال المدعي لي بينة حاضرة ثم أراد أن يحلف المدعى عليه ليس له ذلك عنده وعندهما له ذلك وجه قولهما أن اليمين حجة المدعي كالبينة ولهذا لا تجب إلا عند طلبه فكان له ولاية استيفاء أيهما شاء ولأبي حنيفة أن البينة في كونها حجة المدعي كالأصل لكونها كلام غير الخصم واليمين كالخلف عليها لكونها كلام الخصم فلهذا لو أقام البينة ثم أراد استحلاف المدعى عليه ليس له ذلك والقدرة على الأصل تمنع المصير إلى الخلف ومنها أن لا يكون المدعى حقا لله عز وجل خالصا فلا يجوز الاستحلاف في الحدود الخالصة حقا لله عز وجل كحد الزنا والسرقة والشرب لأن الاستحلاف لأجل النكول ولا يقضى بالنكول في الحدود الخالصة لأنه بذل عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما إقرار فيه شبهة العدم والحدود لا تحتمل البذل ولا تثبت بدليل فيه شبهة لهذا لا تثبت بشهادة النساء والشهادة على الشهادة إلا أن في السرقة يحلف على أخذ المال وكذا لا يمين في اللعان لأنه جار مجرى الحد وأما حد القذف فيجري فيه الاستحلاف في ظاهر الرواية لأنه ليس من الحدود المتمحضة حقا لله تعالى بل يشوبه حق العبد فأشبه التعزير .

                                                                                                                                وفي التعزير يحلف كذا هذا ويجري الاستحلاف في القصاص في النفس والطرف لأن القصاص خالص حق العبد ومنها أن يكون المدعى محتملا للإقرار به شرعا بأن كان لو أقر به لصح إقراره به فإن لم يكن لم يجر فيه الاستحلاف حتى أن من ادعى على رجل أنه أخوه ولم يدع في يده ميراثا فأنكر لا يحلف لأنه لو أقر له بالأخوة لم يجز إقراره لكونه إقرارا على غيره وهو أبوه ولو ادعى أنه أخوه وأن في يده مالا من تركة أبيه وهو مستحق لنصفه بإرثه من أبيه فأنكر يحلف لأجل الميراث لا للأخوة لأنه لو أقر أنه أخوه صح إقراره في حق الإرث حتى يؤمر بتسليم نصف الميراث إليه ولم يصح في حق النسب حتى لا يقضى بأنه أخوه وعلى هذا عبد في يد رجل ادعاه رجلان فأقر به لأحدهما وسلم القاضي العبد إليه فقال الآخر لا بينة لي وطلب من القاضي تحليف المقر لا يحلفه في عين العبد لأنه لو أقر به لكان إقراره باطلا فإذا أنكر لا يحلف إلا أن يقول الذي لم يقر له أنك أتلفت علي العبد بإقرارك به لغيري فاضمن قيمته لي يحلف المقر بالله تعالى ما عليه رد قيمة ذلك العبد على هذا المدعي ولا رد شيء منها لأنه لو أقر بإتلافه لصح وضمن القيمة فإذا أنكر يستحلفه ولو ادعى رجل أنه زوجه ابنته الصغيرة وأنكر الأب لا يحلف عند أبي حنيفة رحمه الله لطريقين أحدهما أنه لو أقر به لا يصح إقراره به عنده فإذا أنكر لا يستحلف والثاني أن الاستحلاف لا يجري في النكاح وعندهما يجري لكن عند أبي يوسف يحلف على السبب وعند محمد على الحاصل والحكم على ما نذكره في موضعه هذا إذا كانت صغيرة عند الدعوى فإن كانت كبيرة وادعى أن أباها زوجها إياه في صغرها لا يحلف عند أبي حنيفة لما قلنا من الطريقين وعندهما لا يحلف أيضا لأحد طريقين وهو أنه لو أقر عليها في الحال لا يصح إقراره ولكن تحلف المرأة عندهما لأنها لو أقرت لصح إقرارها وعندهما الاستحلاف يجري فيه لكن عند أبي يوسف تحلف على السبب بالله عز وجل ما تعلم أن أباها زوجها وهي صغيرة إلا عند التعرض فتحلف على الحكم كما قال محمد ولو ادعت امرأة على رجل أنه زوجها عبده فأنكر المولى لا يحلف عند أبي حنيفة رحمه الله لطريقين أحدهما أنه لو أقر عليه لا يصح إقراره والثاني أنه لا استحلاف في النكاح عنده وعندهما لا يحلف أيضا لكن لطريق واحد وهو أنه لو أقر عليه لا يصح إقراره ولو ادعى رجل على رجل أنه زوجه أمته لا يحلف المولى عند أبي حنيفة وعندهما يحلف لطريق واحد وهو أن [ ص: 227 ] الاستحلاف لا يجري في النكاح عنده وعندهما يجري ومنها أن يكون المدعى مما يحتمل البذل عند أبي حنيفة مع كونه محتملا للإقرار وعندهما أن يكون مما يحتمل الإقرار سواء احتمل البذل أو لا وعلى هذا يخرج اختلافهم في الأشياء السبعة أنها لا يجري فيها الاستحلاف عند أبي حنيفة وهي النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والنسب والرق والولاء والاستيلاد أما النكاح فهو أن يدعي رجل على امرأة أنها امرأته أو تدعي امرأة على رجل أنه زوجها ولا بينة للمدعي وطلب يمين المنكر وأما الرجعة فهو أن يقول الزوج للمطلقة بعد انقضاء عدتها قد كنت راجعتك وأنكرت المرأة وعجز الزوج عن إقامة البينة فطلب يمينها وأما الفيء في الإيلاء فهو أن يكون الرجل آلى من امرأته ومضت أربعة أشهر فقال قد كنت فئت إليك بالجماع فلم تبيني فقالت لم تفئ إلي ولا بينة للزوج فطلب يمينها وأما النسب فنحو أن يدعي على رجل أنه أبوه أو ابنه فأنكر الرجل ولا بينة له وطلب يمينه وأما الرق فهو أن يدعي على رجل أنه عبده فأنكر وقال أنه حر الأصل لم يجر عليه رق أبدا ولا بينة للمدعي فطلب يمينه وأما الولاء فإنه يدعي على امرأة أنه أعتق أباها وأن أباها مات وولاؤه بينهما نصفان فأنكرت أن يكون أعتقه وأن يكون ولاؤه ثابتا منه ولا بينة للمدعي فطلب يمينها على ما أنكرت من الولاء وأما الاستيلاد فهو أن تدعي أمة على مولاها فتقول أنا أم ولد لمولاي وهذا ولدي فأنكر المولى لا يجري الاستحلاف في هذه المواضع السبعة عند أبي حنيفة وعندهما يجري والدعوى من الجانبين تتصور في الفصول الستة وفي الاستيلاد لا يتصور إلا من جانب واحد وهو جانب الأمة فأما جانب المولى فلا تتصور الدعوى لأنه لو ادعى لثبت بنفس الدعوى وهذا بناء على ما ذكرنا أن النكول بذل عنه وهذه الأشياء لا تحتمل البذل وعندهما إقرار فيه شبهة وهذه الأشياء تثبت بدليل فيه شبهة وجه قولهما أن نكول المدعى عليه دليل كونه كاذبا في إنكاره لأنه لو كان صادقا لما امتنع من اليمين الصادقة فكان النكول إقرارا دلالة إلا أنه دلالة قاصرة فيها شبهة العدم وهذه الأشياء تثبت بدليل قاصر فيه شبهة العدم ألا ترى أنها تثبت بالشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين ( ولأبي حنيفة ) أن النكول يحتمل الإقرار لما قلتم ويحتمل البذل لأن العاقل الدين كما يتحرج عن اليمين الكاذبة يتحرج عن التغيير والطعن باليمين ببذل المدعي إلا أن حمله على البذل أولى لأنا لو جعلناه إقرارا لكذبناه لما فيه من الإنكار ولو جعلناه بذلا لم نكذبه لأنه يصير في التقدير كأنه قال ليس هذا لك ولكني لا أمنعك عنه ولا أنازعك فيه فيحصل المقصود من غير حاجة إلى التكذيب وإذا ثبت أن النكول بذل وهذه الأشياء لا تحتمل البذل فلا تحتمل النكول فلا تحتمل التحليف لأنه إنما يستحلف المدعي لينكل المدعى عليه فيقضي عليه فإذا لم يحتمل النكول لا يحتمل التحليف .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية