الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          أما قوله - عز وجل - : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فهو جواب الشبهة الثانية . وتقريره : أن البيت الحرام الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت وضع معبدا للناس ، بناه إبراهيم وولده إسماعيل - عليهما السلام - لأجل العبادة خاصة ، ثم بنى المسجد الأقصى ببيت المقدس بعده بعدة قرون ، بناه سليمان بن داود - عليهما السلام - ، فصح أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - على ملة إبراهيم ، ويتوجه بعبادته إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وولده إسماعيل . وهذا هو المعنى الظاهر المتبادر من الآية الذي قرره الأستاذ الإمام ، وهو كاف في إبطال شبهة اليهود على النبي - عليه الصلاة والسلام - من غير حاجة إلى البحث في هذه الأولية هل هي أولية الشرف أم أولية الزمان أقول : والمتبادر أنها أولية الزمان بالنسبة إلى بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء ، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يعرف من تاريخهم وما يؤثر عنهم ، وهذا يستلزم الأولية في الشرف .

                          وذهب بعض المفسرين إلى أن الأولية زمانية بالنسبة إلى وضع البيوت مطلقا . فقالوا : إن الملائكة بنته قبل خلق آدم وأن بيت المقدس بني بعده بأربعين عاما . قال الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - : إذا صح الحديث فلا شيء في العقل يحيله ، ولكن الآية لا تدل عليه ولا يتوقف الاحتجاج بها على ثبوته ، وبيت المقدس المعروف الذي ينصرف إليه الإطلاق قد بناه سليمان بالاتفاق ، وذلك قبل ميلاد المسيح بنحو 800 سنة - كذا قال رحمه الله تعالى في الدرس - والمعروف في كتب القوم أنه تم بناؤه سنة 1005 قبل الميلاد ، والحديث الذي ذكر آنفا في بناء المسجدين رواه الشيخان من حديث أبي ذر بلفظ الوضع لا البناء . قال : سئل رسول الله [ ص: 7 ] - صلى الله عليه وسلم - عن أول بيت وضع للناس فقال : المسجد الحرام ثم بيت المقدس ، فقيل : كم بينهما ؟ فقال : أربعون سنة وأجابوا عما فيه من الإشكال بوجوه منها : أن الوضع غير البناء وهو ضعيف ; لأنه سماه بيتا ولو جعل المكان مسجدا ولم يبن فيه لما سمي بيتا بل مسجدا أو قبلة ، ومنها : أن ذلك مبني على القول بأن إبراهيم هو الذي بنى أول مسجد للعبادة في أرض بيت المقدس ، وذلك معقول وإن لم يكن عندنا فيه نص صحيح . وقال ابن القيم : إن الذي أسس بيت المقدس يعقوب وإنما كان سليمان مجددا له . هذا وإن أخبار التاريخ ليست مما بلغ على أنه دين يتبع ، والموضوعات المروية في بناء الكعبة كثيرة ولا حاجة إلى إضاعة الوقت في ذكرها وبيان وضعها .

                          أما قوله - تعالى - في البيت : مباركا وهدى للعالمين فهو بيان لحاله الحسنة الحسية وحاله الشريفة المعنوية ، أما الأولى : فهي ما أفيض عليه من بركات الأرض وثمرات كل شيء على كونه بواد غير ذي زرع ، فترى الأقوات والثمار في مكة أكثر وأجود وأقل ثمنا منها في مثل مصر وكثير من بلاد الشام ، وأما الثانية : فهي هوى أفئدة الناس إليه وإتيانه للحج والعمرة مشاة وركبانا من كل فج ، وتولية وجوههم شطره في الصلاة ، ولعله لا تمر ساعة ولا دقيقة من ليل أو نهار وليس فيها أناس متوجهون إلى ذلك البيت الحرام يصلون . فأي هداية للعالمين أظهر من هذه الهداية ؟ تلك دعوة إبراهيم ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون [ 14 : 37 ] وقد أشير إلى الوصفين في قوله - تعالى - حكاية عن المشركين : وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 28 : 57 ] وقال بعضهم : إن مباركا يشمل البركات الحسية والمعنوية ، وما اخترناه هو المتبادر .

                          ومن مباحث اللفظ في الآية أن " بكة " اسم لمكة كما روي عن مجاهد ، قيل : وعليه الأكثرون ، وجعلوه من إبدال الميم باء ، وهو كثير في كلامهم ، كسمد رأسه وسبده ، وضربة لازم وضربة لازب ، وراتم وراتب ، ونميط ونبيط وقيل : بكة اسم المسجد نفسه ، أو حيث الطواف من التباك ، أي الازدحام . وقيل : هو اسم بطن مكة حيث الحرم .

                          فيه آيات بينات مقام إبراهيم أي فيه دلائل أو علامات ظاهرة لا تخفى على أحد ، أحدها أو منها : مقام إبراهيم ، أي موضع قيامه فيه للصلاة والعبادة ، تعرف ذلك العرب بالنقل المتواتر . فأي دليل أبين من هذا على كون هذا البيت أول بيت من بيوت العبادة الصحيحة المعروفة في ذلك العهد ، وضع ليعبد الناس فيه ربهم ؟ وإبراهيم أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم بجعل النبوة والملك فيهم لا يعرف لنبي قبله أثر ولا يحفظ له نسب .

                          [ ص: 8 ] وقوله : ومن دخله كان آمنا آية ثانية بينة لا يمتري فيها أحد ، وهي اتفاق قبائل العرب كلها على احترام هذا البيت وتعظيمه لنسبته إلى الله ، حتى إن من دخله يأمن على نفسه لا من الاعتداء عليه وإيذائه فقط بل يأمن أن يثأر منه من سفك هو دماءهم واستباح حرماتهم ما دام فيه . مضى على هذا عمل الجاهلية على اختلافها في المنازع والأهواء والمعبودات ، وكثرة ما بينهما من الأحقاد والأضغان ، وأقره الإسلام .

                          ويرد على إقرار الإسلام لحرمة البيت فتح مكة بالسيف ، وأجيب عنه : بأنها حلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة من نهار ولم تحل لأحد قبله ولن تحل لأحد بعده ، كما ورد في الحديث ، وذلك لضرورة تطهير البيت من الشرك وتخصيصه لما وضع له . وأقول : إن حرمة مكة كلها وما يتبعها من ضواحيها وحلها للنبي لم يستحل البيت ساعة من نهار أمر زائد على ما نحن فيه ، وهو أمن من دخل البيت ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستحل البيت ساعة ولا بعض ساعة ، وإنما كان مناديه ينادي بأمره من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ولما أخبر أبو سفيان النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول سعد بن عبادة حامل لواء الأنصار له في الطريق : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الكعبة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : كذب سعد ، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ، ويوم تكسى فيه الكعبة ( راجع السير ) .

                          وأما فعل الحجاج - أخزاه الله - فقد قال الأستاذ الإمام : إنه كان من الشذوذ الذي لا ينافي الاتفاق على احترام البيت وتعظيمه وتأمين من دخله ، وهذا الجواب مبني على أن أمن من دخل البيت ليس معناه أن البشر يعجزون عن الإيقاع به عجزا طبيعيا على سبيل خرق العادة ، وإنما معناه أنه - تعالى - ألهمهم احترامه لاعتقادهم نسبته إليه - عز وجل - ، وحرم الإلحاد والاعتداء فيه . ولم يكن الحجاج وجنده يعتقدون حل ما فعلوا من رمي الكعبة بالمنجنيق ، ولكنها السياسة تحمل صاحبها على مخالفة الاعتقاد ، وتوقعه في الظلم والإلحاد ، وإن ما يفعل الآن في الحرم من الظلم والإلحاد المستمر لم يسبق له نظير في جاهلية ولا إسلام . ولا ضرورة ملجئة إليه ، وإنما هي السياسة السوءى قضت بتنفير الناس من أمراء مكة وشرفائها وإبعاد عقلاء المسلمين عنها ، حتى لا يكون للمسلمين فيها قوة في الدين ، ولا في العلم والرأي ! ! وماذا يكون من ضرر هذه القوة ؟ يوسوس لهم شيطان السياسة أن عمران الحجاز وثقة الناس بأمرائه وشرفائه ، وأمن العقلاء والسروات فيه ربما يكون سببا في إنشاء خلافة عربية فيه . إن كثيرا من أمراء المسلمين ونابغيهم يعلمون أن دون أدائهم لفريضة الحج عقبات سياسية لا يسهل اقتحامها ، وقد جاء في صحف الأخبار أن أمير مصر استأذن السلطان في حج والدته وبعض أمراء أسرته فلم يأذن . وقد كان الأستاذ الإمام يعتقد اعتقادا جازما فيه أنه إذا حج [ ص: 9 ] يلقي بيديه إلى التهلكة ، وأنه لا أمان له في الحرم الذي كان يرى الجاهلي فيه قاتل أبيه فلا يعرض له بسوء . وإن كاتب هذه السطور يعتقد مثل هذا الاعتقاد ، فنسأل الله - تعالى - أن يحقق لنا ثانية مضمون قوله : ومن دخله كان آمنا لنمتثل ما فرضه علينا من حج هذا البيت - كما يأتي في تتمة الآية - فلا نلجأ إلى تأويل الأمان بمثل ما أوله به من قال : إن المراد به الأمن من العذاب يوم القيامة . وقد رد الأستاذ الإمام هذا التأويل وقال ما معناه : إنه هدم للدين كله ، فإن الأمن هناك إنما يكون لأهل التوحيد الخالص والعمل الصالح ، الذين أقاموا الدين في الدنيا كما أمر الله - تعالى - ، وما دخول البيت إلا بعض أعمال الإيمان ، إذا أخلص صاحبه فيه . أقول : ولا تنس في هذا المقام مثل قوله - تعالى - : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ 6 : 82 ] وما رووه في ذلك من الآثار لا ينافي المتبادر المختار .

                          وما أظن أن ذلك يصح عن الإمام جعفر الصادق كما قيل .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية