nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=143nindex.php?page=treesubj&link=28974_25875_32875ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون الخطاب لجماعة المسلمين الذين شهدوا وقعة
أحد ، وقد ذكرنا في تلخيص القصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى ألا يخرج للمشركين بل يستعد لمدافعتهم في
المدينة ، وكان على هذا الرأي جماعة من كبراء الصحابة ، وبه صرح
عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين وأن أكثر الصحابة أشاروا بالخروج إلى
أحد حيث عسكر المشركون ومناجزتهم هناك ، وأن الشبان ومن لم يشهد
بدرا كانوا يلحون في الخروج ; لهذا قال
مجاهد : إن هذه الآية عتاب لرجال غابوا عن
بدر فكانوا يتمنون مثل يوم
بدر أن يلقوه فيصيبوا من الخير والأجر مثل ما أصاب أهل
بدر ، فلما كان يوم
أحد ولى منهم من ولى فعاتبهم الله ، وروي نحو ذلك عن غيره منهم
الربيع والسدي . وروي عن
الحسن أنه قال : بلغني أن رجالا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون : لئن لقينا العدو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفعلن ولنفعلن ، فابتلوا بذلك فلا والله ما كلهم صدق ، فأنزل الله - عز وجل - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=143ولقد كنتم تمنون الموت فأطلق
الحسن ولم يخص من لم يشهد
بدرا وهو الصواب ، فإن الذين كانوا يتمنون القتال كثيرون .
قلنا : إن هذه الآية أظهرت للمؤمنين تأويل قوله - تعالى - في إيمانهم وجهادهم وصبرهم ، وعلمتهم كيف يحاسبون أنفسهم ويمتحنون قلوبهم ; وبيان ذلك أنهم تمنوا القتال أو الموت في القتال لينالوا مرتبة الشهادة ، وقد أثبت الله لهم هذا التمني وأكده بقوله : ولقد فلم
[ ص: 130 ] يكن ذلك منهم دعوى قولية ولا صورة في الذهن خيالية بل كان حقيقة واقعة في النفس ولكنها زالت عند مجيء دور الفعل ، وهذه مرتبة من مراتب النفس في شعورها وعرفانها هي دون مرتبة الكمال الذي يصدقه العمل ، وفوق مرتبة التصور والتخيل مع الانصراف عن تمني العمل بمقتضاه أو مع كراهته والهرب منه - كما يتوهم بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه ولكنه يهرب من كل طريق يخشى أن يطالب فيه بعمل يأتيه لأجلهما أو مال يعاون به العاملين لهما ، أو يكون خالي الذهن من الفكر في العمل أو البذل لإعلاء شأن هذا المحبوب أو كف العدوان أو الشر عنه . فهاتان مرتبتان دون مرتبة من يتصور أنه يحب ملته ووطنه ويفكر في خدمتهما ويتمنى لو يتاح له ذلك ، حتى إذا احتيج إلى خدمته التي كان يفكر فيها ويتمناها وجد من نفسه الضعف فأعرض عن العمل قبل الشروع أو بعد أن ذاق مرارته وكابد مشقته ، وإنما المطلوب في الإيمان ما هو أعلى من هذه المرتبة ، المطلوب فيه مرتبة اليقين والإذعان النفسي التي من مقتضاها العمل مهما كان شاقا ، والجهاد مهما كان عسرا ، والصبر على المكاره وإيثار الحق على الباطل ، وقد تقدم في تفسير :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وليعلم الله وتفسير :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=141وليمحص الله من الآيتين السابقتين أمثلة تزيد المبحث وضوحا .
وقد كان في مجموع المخاطبين بالآية عند نزولها من هم في المرتبة العليا ، وأولئك هم المجاهدون الصابرون الذين ثبتوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبات الجبال لا ثبات الأبطال ، وهم نحو ثلاثين رجلا ، وقد ذكرنا أسماء بعضهم في تلخيص القصة ، وإنما جعل الخطاب عاما ليكون تربية عامة ; فإن
nindex.php?page=treesubj&link=30483أصحاب المراتب العلية يتهمون أنفسهم بالتقصير فيزدادون كمالا .
فهذه الآية تنبه كل مؤمن إلى الغرور بحديث النفس والتمني والتشهي ، وتهديه إلى امتحان نفسه بالعمل الشاق ، وعدم الثقة بما دون الجهاد والصبر على المكاره في سبيل الحق ، حتى يأمن الدعوى الخادعة ، بله الدعوى الباطلة ، وإنما الخادعة أن تدعي ما تتوهم أنك صادق فيه مع الغفلة أو الجهل بعجزك عنه ، والباطلة لا تخفى عليك ، وإنما تظن أنها تخفى على سواك .
قد أشرنا إلى أن الظاهر من تمني الموت هو
nindex.php?page=treesubj&link=25561_32493_32875تمني الشهادة في سبيل الله ، وقول بعضهم : إن المراد بالموت الحرب لأنها سببه ، وعد بعضهم تمني الشهادة المأثور عن كثير من الصحابة مشكلا ; لأنه يستلزم انتصار الكفار على المشركين ، ولا إشكال إلا في مخ من اخترع هذه العبارة ، فإن الذي يتمنى الشهادة في سبيل الله لا يلقي بنفسه إلى التهلكة ولا يقصر في الدفاع والصدام حتى يقال إنه مكن الأعداء منه ومهد لهم سبيل الظفر بالمؤمنين ، وإنما يكون أقوى جهادا وأشد جلادا وأجدر بأن ينصر قومه ويخذل من يحاربهم ، ثم إنه
[ ص: 131 ] لا يقصد لازم الموت والشهادة من نقص عدد المسلمين أو ضعفهم ; على أن هذا اللازم إنما يتبع استشهاد الكثير أو الأكثر منهم ، ومن يتمنى الشهادة فإنما يتمناها لنفسه دون العدد الكثير من قومه .
وقال الأستاذ الإمام : إن تمني الشهادة الذي وقع ليس تمنيا مطلقا وإنما هو تمني من يقاتل لنصرة الحق أن تذهب نفسه دونه ، فإذا هو وصل إلى ما يبغي من نصرة الحق وإعزازه بانهزام أهل الباطل وخذلانهم فبها ونعمت ، وإلا فضل الموت في سبيل إعزاز الحق ورآه خيرا من البقاء مع إذلاله وغلبة الباطل عليه ، وقال : إن الخطاب لمن يسبق لهم تمني الموت بعد أن فاتهم حضور وقعة
بدر أو الشهادة فيها لبعض من حضرها ، ثم جاءت وقعة
أحد فكان منهم من انكسرت نفسه في أثناء الوقعة ووهن عزمه ، ومنهم من وهن وضعف بعدها عندما ندبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباع المشركين معه في
حمراء الأسد . كأنه يقول : يا سبحان الله لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم في الحرب ، فها أنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه وأنتم تنظرون إليه لا تغفلون عنه فما بالكم دهشتم عندما وقع الموت فيكم ؟ وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون ؟ ومن تمنى الشيء وسعى إليه لا ينبغي أن يحزنه لقاؤه ويسوءه فقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=50وأنتم تنظرون للتأكيد لأن الإنسان يرى الشيء أحيانا ولكنه لانشغاله عنه ربما لا يتبينه ، فأراد أن يقول : إنكم قد رأيتموه رؤية كان لها الأثر الثابت في نفوسكم لا رؤية من قبيل لمح الشيء مع الغفلة عنه وعدم المبالاة به ، قال : وقال بعض المفسرين: إن الجملة مستأنفة ، أي أبصرتموه وأنتم الآن تنظرون وتتأملون فيما رأيتموه وتفكرون في علاقته بشئونكم ، والذي يظهر هو صحة التأويل الأول يعني أنها مؤكدة .
أقول : وقد جرى صاحب الكشاف
والبيضاوي وأبو السعود على أنها حالية ، وأن معناه : رأيتم الموت ناظرين إلى وقوعه بكم ، واغتياله لإخوانكم متوقعين أن يحل بكم ما حل بهم ، قال جماعة وهو توبيخ لهم على تمنيهم الموت وإلحاحهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخروج إلى الحرب ، ونقول : إنه تذكير لمن انهزم وعصى منهم بأن ما سبق من تمنيهم الموت لم يكن عن رسوخ ويقين وتفضيل للشهادة ولقاء الله على الحياة ، وإنما كان فيه شائبة من الغرور والزهو ، وإرشاد توبيخي لهم ولأمثالهم إلى أن يحاسبوا أنفسهم ويطالبوها بالكمال الذي تأتي فيه الأعمال مصدقة لخواطر النفس وتمنياتها كما تقدم شرحه .
بعد هذا بين الله - تعالى - حكمة أخرى من أعظم الحكم المتعلقة بغزوة
أحد وهي إشاعة قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وما كان من تأثيرها في المسلمين وما كان يجب أن يكون ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في القصة قبل الشروع في تفسير الآيات التي نزلت فيها فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=143nindex.php?page=treesubj&link=28974_25875_32875وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ الْخِطَابُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا وَقْعَةَ
أُحُدٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَلْخِيصِ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى أَلَا يَخْرُجَ لِلْمُشْرِكِينَ بَلْ يَسْتَعِدُّ لِمُدَافَعَتِهِمْ فِي
الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ ، وَبِهِ صَرَّحَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ أَشَارُوا بِالْخُرُوجِ إِلَى
أُحُدٍ حَيْثُ عَسْكَرَ الْمُشْرِكُونَ وَمُنَاجَزَتَهُمْ هُنَاكَ ، وَأَنَّ الشُّبَّانَ وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ
بَدْرًا كَانُوا يُلِحُّونَ فِي الْخُرُوجِ ; لِهَذَا قَالَ
مُجَاهِدٌ : إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عِتَابٌ لِرِجَالٍ غَابُوا عَنْ
بَدْرٍ فَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مِثْلَ يَوْمِ
بَدْرٍ أَنْ يَلْقَوْهُ فَيُصِيبُوا مِنَ الْخَيْرِ وَالْأَجْرِ مِثْلَ مَا أَصَابَ أَهْلُ
بَدْرٍ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
أُحُدٍ وَلَّى مِنْهُمْ مَنْ وَلَّى فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمُ
الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ . وَرُوِيَ عَنِ
الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَقُولُونَ : لَئِنْ لَقِينَا الْعَدُوَّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنَفْعَلَنَّ وَلَنَفْعَلَنَّ ، فَابْتُلُوا بِذَلِكَ فَلَا وَاللَّهِ مَا كُلُّهُمْ صَدَقَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=143وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فَأَطْلَقَ
الْحَسَنُ وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ
بَدْرًا وَهُوَ الصَّوَابُ ، فَإِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ الْقِتَالَ كَثِيرُونَ .
قُلْنَا : إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَظْهَرَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي إِيمَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ وَصَبْرِهِمْ ، وَعَلَّمَتْهُمْ كَيْفَ يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَمْتَحِنُونَ قُلُوبَهُمْ ; وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الْقِتَالَ أَوِ الْمَوْتَ فِي الْقِتَالِ لِيَنَالُوا مَرْتَبَةَ الشَّهَادَةِ ، وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ لَهُمْ هَذَا التَّمَنِّيَ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ : وَلَقَدْ فَلَمْ
[ ص: 130 ] يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ دَعْوَى قَوْلِيَّةً وَلَا صُورَةً فِي الذِّهْنِ خَيَالِيَّةً بَلْ كَانَ حَقِيقَةً وَاقِعَةً فِي النَّفْسِ وَلَكِنَّهَا زَالَتْ عِنْدَ مَجِيءِ دَوْرِ الْفِعْلِ ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ مِنْ مَرَاتِبِ النَّفْسِ فِي شُعُورِهَا وَعِرْفَانِهَا هِيَ دُونَ مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ الَّذِي يُصَدِّقُهُ الْعَمَلُ ، وَفَوْقَ مَرْتَبَةِ التَّصَوُّرِ وَالتَّخَيُّلِ مَعَ الِانْصِرَافِ عَنْ تَمَنِّي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ أَوْ مَعَ كَرَاهَتِهِ وَالْهَرَبِ مِنْهُ - كَمَا يَتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ يُحِبُّ مِلَّتَهُ وَوَطَنَهُ وَلَكِنَّهُ يَهْرُبُ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ يَخْشَى أَنْ يُطَالَبَ فِيهِ بِعَمَلٍ يَأْتِيهِ لِأَجْلِهِمَا أَوْ مَالٍ يُعَاوِنُ بِهِ الْعَامِلِينَ لَهُمَا ، أَوْ يَكُونُ خَالِيَ الذِّهْنِ مِنَ الْفِكْرِ فِي الْعَمَلِ أَوِ الْبَذْلِ لِإِعْلَاءِ شَأْنِ هَذَا الْمَحْبُوبِ أَوْ كَفِّ الْعُدْوَانِ أَوِ الشَّرِّ عَنْهُ . فَهَاتَانِ مَرْتَبَتَانِ دُونَ مَرْتَبَةِ مَنْ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُ يُحِبُّ مِلَّتَهُ وَوَطَنَهُ وَيُفَكِّرُ فِي خِدْمَتِهِمَا وَيَتَمَنَّى لَوْ يُتَاحُ لَهُ ذَلِكَ ، حَتَّى إِذَا احْتِيجَ إِلَى خِدْمَتِهِ الَّتِي كَانَ يُفَكِّرُ فِيهَا وَيَتَمَنَّاهَا وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ الضَّعْفَ فَأَعْرَضَ عَنِ الْعَمَلِ قَبْلَ الشُّرُوعِ أَوْ بَعْدَ أَنْ ذَاقَ مَرَارَتَهُ وَكَابَدَ مَشَقَّتَهُ ، وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ فِي الْإِيمَانِ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ، الْمَطْلُوبُ فِيهِ مَرْتَبَةُ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ الَّتِي مِنْ مُقْتَضَاهَا الْعَمَلُ مَهْمَا كَانَ شَاقًّا ، وَالْجِهَادُ مَهْمَا كَانَ عَسِرًا ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ وَإِيثَارُ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ وَتَفْسِيرِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=141وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ مِنَ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ أَمْثِلَةٌ تَزِيدُ الْمَبْحَثَ وُضُوحًا .
وَقَدْ كَانَ فِي مَجْمُوعِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ عِنْدَ نُزُولِهَا مَنْ هُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُجَاهِدُونَ الصَّابِرُونَ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَاتَ الْجِبَالِ لَا ثَبَاتَ الْأَبْطَالِ ، وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثِينَ رَجُلًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَسْمَاءَ بَعْضِهِمْ فِي تَلْخِيصِ الْقِصَّةِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْخِطَابُ عَامًّا لِيَكُونَ تَرْبِيَةً عَامَّةً ; فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30483أَصْحَابَ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ يَتَّهِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالتَّقْصِيرِ فَيَزْدَادُونَ كَمَالًا .
فَهَذِهِ الْآيَةُ تُنَبِّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ إِلَى الْغُرُورِ بِحَدِيثِ النَّفْسِ وَالتَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي ، وَتَهْدِيهِ إِلَى امْتِحَانِ نَفْسِهِ بِالْعَمَلِ الشَّاقِّ ، وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِمَا دُونَ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ ، حَتَّى يَأْمَنَ الدَّعْوَى الْخَادِعَةَ ، بَلْهَ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ ، وَإِنَّمَا الْخَادِعَةُ أَنْ تَدَّعِيَ مَا تَتَوَهَّمُ أَنَّكَ صَادِقٌ فِيهِ مَعَ الْغَفْلَةِ أَوِ الْجَهْلِ بِعَجْزِكَ عَنْهُ ، وَالْبَاطِلَةُ لَا تَخْفَى عَلَيْكَ ، وَإِنَّمَا تَظُنُّ أَنَّهَا تَخْفَى عَلَى سِوَاكَ .
قَدْ أَشَرْنَا إِلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ هُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=25561_32493_32875تَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ : إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتِ الْحَرْبُ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ ، وَعَدَّ بَعْضُهُمْ تَمَنِّيَ الشَّهَادَةِ الْمَأْثُورِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مُشْكِلًا ; لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ انْتِصَارَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، وَلَا إِشْكَالَ إِلَّا فِي مُخِّ مَنِ اخْتَرَعَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ ، فَإِنَّ الَّذِي يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يُلْقِي بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَلَا يُقَصِّرُ فِي الدِّفَاعِ وَالصِّدَامِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ مَكَّنَ الْأَعْدَاءَ مِنْهُ وَمَهَّدَ لَهُمْ سَبِيلَ الظَّفَرِ بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَقْوَى جِهَادًا وَأَشَدَّ جِلَادًا وَأَجْدَرَ بِأَنْ يَنْصُرَ قَوْمَهُ وَيَخْذُلَ مَنْ يُحَارِبُهُمْ ، ثُمَّ إِنَّهُ
[ ص: 131 ] لَا يَقْصِدُ لَازِمَ الْمَوْتِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ نَقْصِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ ضَعْفِهِمْ ; عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّازِمَ إِنَّمَا يَتْبَعُ اسْتِشْهَادَ الْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ ، وَمَنْ يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ فَإِنَّمَا يَتَمَنَّاهَا لِنَفْسِهِ دُونَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْ قَوْمِهِ .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : إِنَّ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ الَّذِي وَقَعَ لَيْسَ تَمَنِّيًا مُطْلَقًا وَإِنَّمَا هُوَ تَمَنِّي مَنْ يُقَاتِلُ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ أَنْ تَذْهَبَ نَفْسُهُ دُونَهُ ، فَإِذَا هُوَ وَصَلَ إِلَى مَا يَبْغِي مِنْ نُصْرَةِ الْحَقِّ وَإِعْزَازِهِ بِانْهِزَامِ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَخِذْلَانِهِمْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِلَّا فَضَّلَ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِ إِعْزَازِ الْحَقِّ وَرَآهُ خَيْرًا مِنَ الْبَقَاءِ مَعَ إِذْلَالِهِ وَغَلَبَةِ الْبَاطِلِ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : إِنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ يَسْبِقُ لَهُمْ تَمَنِّي الْمَوْتِ بَعْدَ أَنْ فَاتَهُمْ حُضُورُ وَقْعَةِ
بَدْرٍ أَوِ الشَّهَادَةُ فِيهَا لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَهَا ، ثُمَّ جَاءَتْ وَقْعَةُ
أُحُدٍ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ انْكَسَرَتْ نَفْسُهُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْعَةِ وَوَهَنَ عَزْمُهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَهَنَ وَضَعُفَ بَعْدَهَا عِنْدَمَا نَدَبَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى اتِّبَاعِ الْمُشْرِكِينَ مَعَهُ فِي
حَمْرَاءِ الْأَسَدِ . كَأَنَّهُ يَقُولُ : يَا سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ تُلَاقُوا الْقَوْمَ فِي الْحَرْبِ ، فَهَا أَنْتُمْ أُولَاءِ قَدْ رَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ لَا تَغْفُلُونَ عَنْهُ فَمَا بَالُكُمْ دَهِشْتُمْ عِنْدَمَا وَقَعَ الْمَوْتُ فِيكُمْ ؟ وَمَا بَالُكُمْ تَحْزَنُونَ وَتَضْعُفُونَ عِنْدَ لِقَاءِ مَا كُنْتُمْ تُحِبُّونَ وَتَتَمَنَّوْنَ ؟ وَمَنْ تَمَنَّى الشَّيْءَ وَسَعَى إِلَيْهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْزِنَهُ لِقَاؤُهُ وَيَسُوءَهُ فَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=50وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرَى الشَّيْءَ أَحْيَانًا وَلَكِنَّهُ لِانْشِغَالِهِ عَنْهُ رُبَّمَا لَا يَتَبَيَّنُهُ ، فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ : إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُوهُ رُؤْيَةً كَانَ لَهَا الْأَثَرُ الثَّابِتُ فِي نُفُوسِكُمْ لَا رُؤْيَةً مِنْ قَبِيلِ لَمْحِ الشَّيْءِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ ، قَالَ : وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ ، أَيْ أَبْصَرْتُمُوهُ وَأَنْتُمُ الْآنُ تَنْظُرُونَ وَتَتَأَمَّلُونَ فِيمَا رَأَيْتُمُوهُ وَتُفَكِّرُونَ فِي عَلَاقَتِهِ بِشُئُونِكُمْ ، وَالَّذِي يَظْهَرُ هُوَ صِحَّةُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَعْنِي أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ .
أَقُولُ : وَقَدْ جَرَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ
وَالْبَيْضَاوِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ عَلَى أَنَّهَا حَالِيَّةٌ ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ : رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ نَاظِرِينَ إِلَى وُقُوعِهِ بِكُمْ ، وَاغْتِيَالِهِ لِإِخْوَانِكُمْ مُتَوَقِّعِينَ أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ ، قَالَ جَمَاعَةٌ وَهُوَ تَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ وَإِلْحَاحِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخُرُوجِ إِلَى الْحَرْبِ ، وَنَقُولُ : إِنَّهُ تَذْكِيرٌ لِمَنِ انْهَزَمَ وَعَصَى مِنْهُمْ بِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ لَمْ يَكُنْ عَنْ رُسُوخٍ وَيَقِينٍ وَتَفْضِيلٍ لِلشَّهَادَةِ وَلِقَاءِ اللَّهِ عَلَى الْحَيَاةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الْغُرُورِ وَالزَّهْوِ ، وَإِرْشَادٌ تَوْبِيخِيٌّ لَهُمْ وَلِأَمْثَالِهِمْ إِلَى أَنْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ وَيُطَالِبُوهَا بِالْكَمَالِ الَّذِي تَأْتِي فِيهِ الْأَعْمَالُ مُصَدِّقَةً لِخَوَاطِرِ النَّفْسِ وَتَمَنِّيَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ .
بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ اللَّهُ - تَعَالَى - حِكْمَةً أُخْرَى مِنْ أَعْظَمِ الْحِكَمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِغَزْوَةِ
أُحُدٍ وَهِيَ إِشَاعَةُ قَتْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي الْقِصَّةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا فَقَالَ :