الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل .

قال في البرهان : ومن ذلك افتتاح السور بالحروف المقطعة ، واختصاص كل واحدة بما بدئت به حتى لم يكن لترد الم في موضع الر ولا حم في موضع طس .

قال : وذلك أن كل سورة بدئت بحرف منها ، فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له ، فحق لكل سورة منها أن لا يناسبها غير الواردة فيها ، فلو وضع ( ق ) موضع ( ن ) لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله ، وسورة ( ق ) بدئت به لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف ، من ذكر القرآن والخلق وتكرير القول ومراجعته مرارا ، والقرب من ابن آدم ، وتلقي الملكين ، وقول العتيد ، والرقيب ، والسائق ، والإلقاء في جهنم ، والتقدم بالوعد ، وذكر المتقين ، والقلب ، والقرون ، والتنقيب في البلاد وتشقق الأرض ، وحقوق الوعيد ، وغير ذلك .

وقد تكرر في سورة يونس من الكلم الواقع فيها الراء مائتا كلمة أو أكثر ، فلهذا افتتحت ب الر واشتملت سورة ( ص ) على خصومات متعددة ، فأولها خصومة النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار ، وقولهم : أجعل الآلهة إلها واحدا [ ص : 5 ] . ثم اختصام الخصمين عند داود ، ثم تخاصم أهل النار ، ثم اختصام الملأ الأعلى ثم تخاصم إبليس في شأن آدم ، ثم في شأن بنيه وإغوائهم .

و ( الم ) جمعت المخارج الثلاثة : الحلق واللسان والشفتين على ترتيبها وذلك إشارة إلى البداية التي هي بدء الخلق ، والنهاية التي هي بدء الميعاد ، والوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي ، وكل سورة افتتحت بها فهي مشتملة على الأمور الثلاثة .

وسورة الأعراف زيد فيها الصاد على ( الم ) لما فيها من شرح القصص ، قصة آدم فمن بعده من الأنبياء ، ولما فيها من ذكر : فلا يكن في صدرك حرج ولهذا قال [ ص: 228 ] بعضهم : معنى المص : ألم نشرح لك صدرك وزيد في الرعد راء لأجل قوله : رفع السماوات [ 2 ] . ولأجل ذكر الرعد والبرق وغيرهما .

واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن كقوله : الم ذلك الكتاب [ البقرة ] . الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق [ آل عمران ] . المص كتاب أنزل إليك [ الأعراف ] . الر تلك آيات الكتاب [ الحجر ] . طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [ طه ] . طس تلك آيات القرآن [ النمل ] . يس والقرآن . ص والقرآن . حم تنزيل الكتاب [ الجاثية ] . ق والقرآن إلا ثلاث سور : العنكبوت ، والروم ، و [ ن ] ، ليس فيها ما يتعلق به وقد ذكرت حكمة ذلك في أسرار التنزيل .

وقال الحراني في معنى حديث : أنزل القرآن على سبعة أحرف : زاجر ، وآمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال .

اعلم أن القرآن منزل عند انتهاء الخلق ، وكمال كل الأمر ، بدأ فكان المتحلي به جامعا لانتهاء كل خلق ، وكمال كل أمر ، فلذلك هو صلى الله عليه وسلم قسيم الكون وهو الجامع الكامل ولذلك كان خاتما ، وكتابه كذلك ، وبدأ المعاد من حين ظهوره ، فاستوفي في صلاح هذه الجوامع الثلاث التي قد خلت في الأولين بداياتها ، وتمت عنده غاياتها : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وهي صلاح الدنيا والدين والمعاد التي جمعها عليه الصلاة والسلام : اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي .

[ ص: 229 ] وفي كل صلاح إقدام وإحجام ، فتصير الثلاثة الجوامع ستة هي حروف القرآن الستة ، ثم وهب حرفا جامعا سابعا فردا لا زوج له فتمت سبعة .

فأدنى تلك الحروف هو حرفا صلاح الدنيا فلها حرفان : حرف الحرام الذي لا تصلح النفس والبدن إلا بالتطهر منه لبعده عن تقويمها ، والثاني حرف الحلال الذي تصلح النفس والبدن عليه لموافقته تقويمها ، وأصل هذين الحرفين في التوراة وتمامهما في القرآن .

ويلي ذلك حرفا صلاح المعاد ، أحدهما : حرف الزجر والنهي الذي لا تصلح الآخرة إلا بالتطهر منه لبعده عن حسناتها ، والثاني : حرف الأمر الذي تصلح الآخرة عليه لتقاضيه لحسناتها . وأصل هذين الحرفين في الإنجيل ، وتمامهما في القرآن .

ويلي ذلك حرفا صلاح الدين : أحدهما حرف المحكم الذي بان للعبد فيه خطاب ربه .

والثاني حرف المتشابه الذي لا يتبين للعبد فيه خطاب ربه من جهة قصور عقله عن إدراكه . فالحروف الخمسة للاستعمال ، وهذا الحرف السادس للوقوف والاعتراف بالعجز ، وأصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلها وتمامهما في القرآن ،

ويختص القرآن بالحرف السابع الجامع ، وهو حرف المثل المبين للمثل الأعلى ، ولما كان هذا الحرف هو الحمد افتتح الله به أم القرآن ، وجمع فيها جوامع الحروف السبعة التي بثها في القرآن ، فالآية الأولى تشتمل على حرف الحمد السابع .

والثانية تشتمل على حرفي الحلال والحرام اللذين أقامت الرحمانية بهما الدنيا والرحيمية الآخرة .

والثالثة : تشتمل على أمر الملك القيم على حرفي الأمر والنهي اللذين يبدأ أمرهما في الدين .

والرابعة تشتمل على حرفي المحكم في قوله : إياك نعبد والمتشابه في قوله : وإياك نستعين ولما افتتح أم القرآن بالسابع الجامع الموهوب ابتدئت البقرة بالسادس المعجوز عنه ، وهو المتشابه .

انتهى كلام الحراني والمقصود منه هو الأخير ، وبقيته ينبو عنه السمع وينفر منه [ ص: 230 ] القلب ، ولا تميل إليه النفس ، وأنا أستغفر الله من حكايته على أني أقول في مناسبة ابتداء البقرة ب الم أحسن مما قال ، وهو أنه لما ابتدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكل أحد ، حيث لا يعذر أحد في فهمه ، ابتدئت البقرة بمقابله ، وهو الحرف المتشابه البعيد التأويل أو المستحيله .

التالي السابق


الخدمات العلمية