الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم أي ليعرف أمر رشدهم وتصرفهم ولتظهر براءة ذمتكم ولتحسم مادة النزاع بينكم ، قال ابن عباس : إذا دفع إلى اليتيم ماله ( أي عند بلوغ رشده ) فليدفعه إليه بالشهود كما أمر الله - تعالى - . وهذا الإشهاد واجب كما هو ظاهر الأمر ، وعليه الشافعية ، والمالكية . وقال الحنفية : إنه غير واجب بل مندوب ، وقال الأستاذ الإمام : ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأمر بالإشهاد أمر إرشاد لا أمر وجوب ، وهم متفقون على أن الأوامر المارة كلها للإيجاب القطعي ، والنواهي كلها للتحريم ، وظاهر السياق أن هذا الأمر مثل ما سبقه ، ولعل السبب فيما قاله الفقهاء هو أن الناس تهاونوا بأمر الإشهاد وأهملوه من زمن بعيد ، فسهل ذلك على الفقهاء التأويل ، ورأوه أولى من تأثيم الناس وجعل أكثرهم مخالفين لما فرض عليهم ، ولا شك عندي أن الإشهاد حتم ، وأن تركه يؤدي إلى النزاع ، والتخاصم ، والتقاضي كما هو مشاهد ، فإذا فرضنا أن الناس كانوا في زمن ما مستمسكين بعروة الدين استمساكا عاما ، وكان اليتامى يحسنون الظن في الأولياء فلا يتهمونهم ، وأن الإشهاد لم يكن محتما عليهم لأجل هذا . أفليس هذا الزمن المعلوم مخالفا لذلك الزمن المجهول مخالفة تقتضي أن يجعل الإشهاد ضربة لازب لقطع عرق الخصام ونزوع النفس إلى النزاع والمشاغبة ؟

                          وكفى بالله حسيبا أي وكفى بالله رقيبا عليكم وشهيدا يحاسبكم على ما أظهرتم وما أسررتم ، أو كفى بالله كافيا في الشهادة عليكم يوم الحساب . الحسب ( بسكون السين ) في الأصل : الكفاية ، وفسر الراغب الحسيب : بالرقيب ، وفسره السدي : بالشهيد ، فهل هذان معنيان مستقلان أم من لوازم المعنى الأصلي ؟ قال الأستاذ الإمام : الحسيب : هو المراقب المطلع على ما يعمل العامل ، وإنما جاء بهذا بعد الأمر بالإشهاد القاطع لعرق النزاع ليدلنا على أن الإشهاد - وإن حصل ، وكان يسقط الدعوى عند القاضي بالمال - لا يسقط الحق [ ص: 321 ] عند الله إذا كان الولي خائنا ; إذ لا يخفى عليه - تعالى - ما يخفى على الشهود والحكام ، وكأن هؤلاء الأوصياء الخبثاء الذين نعرفهم لم يسمعوا قول الله في ذلك قط ; فقد كثرت فيهم وفي غيرهم الخيانة وأكل أموال اليتامى ، والسفهاء والأوقاف بالحيل حتى إنه يمكنني أن أقول : إنه لا يوجد في القطر المصري عشرة أشخاص يصلحون للوصاية على اليتيم ، أو السفيه ، والوقف ، وقد نص الفقهاء على أن النظر على الوقف كالوصاية على اليتيم . فانظروا إلى هذه الدقة في الآية الكريمة من الأمر باختبار اليتيم ، ودفع ماله إليه عند بلوغه رشده ، ومن النهي عن أكل شيء منه بطرق الإسراف ومبادرة كبره ، ومن الأمر بالإشهاد عليه عند الدفع ، ثم التنبيه إلى مراقبة الله - تعالى - التي تتناول جميع ذلك .

                          ومن مباحث اللفظ في الآية عنه : أن بعض النحاة يقولون : إن الباء الداخلة على لفظ الجلالة في قوله : وكفى بالله زائدة ، والمعنى كفى الله حسيبا ، وبعضهم يقول : إن الفاعل مصدر محذوف ، والباء حرف جر أصلي متعلق به ، وهذا كله من تطبيق القرآن على القواعد التي وضعوها - أو قال قعدوها - ونحن نقول : إن المعنى مع وجود الباء هو غير المعنى مع عدمها ، فلها معنى في الكلام كيفما أعربت ، وإن ( كفى ) فعل ليس له فاعل ، والجار متعلق به ، ومعناه أن الله - عز وجل - هو أشد من يراقب ويحاسب . وهذه الجملة من فرائد البلاغة المسموعة التي لا تحتذى ، ولا يؤتى بمثل لها قد جاءت على هذه الكيفية النادر مثلها في حسنها ، فلا يمكن تطبيقها على القواعد الموضوعة للكلام المعروف عند جميع العرب الدائر على ألسنة أهل الفصاحة والفهاهة على السواء .

                          أقول : ويحسن أن نذكر هنا ما قاله عند الكلام على ( حتى ) الابتدائية ، وما فيها من معنى الغاية - كما تقدم - وهو أن القواعد النحوية ، ونحوها ( كقواعد البيان ) ، وضعت بعد وضع اللغة لا قبلها ، فلا يمكن أن تكون عامة شاملة لكل كلام . ولكن النحاة حاولوا إدخال كل الكلام في قواعدهم ، وكان يجب أن يقولوا كما قال بعض أهل اللغة في بعض الكلام النادر الاستعمال : إنه ورد هكذا على غير القاعدة التي وضعناها فهو نظم سماعي يحفظ في اللغة ، ولا يقاس عليه .

                          وأقول : إن ما جاء على خلاف المشهور الشائع الذي وضعت له القواعد قسمان : قسم شاذ جرى على ألسنة بعض بلداء الأعراب لا حسن فيه ، وقسم كالدرر اليتيمة انفرد به بعض البلغاء ، فكان له أحسن تأثير في الكلام ، ويوجد كل من القسمين في كل لغة ، وما يوجد منه في كلام الله - عز وجل - هو أعلاه ، وأبلغه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية