الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : معنى ( تقشعر منه جلود ) تأخذهم قشعريرة ، وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف ، قال المفسرون : والمعنى أنهم عند سماع آيات الرحمة والإحسان يحصل لهم الفرح فتلين قلوبهم إلى ذكر الله ، وأقول : إن المحققين من العارفين قالوا : السائرون في مبدأ جلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا ، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا ، ويجب علينا أن نذكر في هذا الباب مزيد شرح وتقرير ، فنقول : الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة ، فهنا يقشعر جلده ، لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ، ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم ، مما يصعب تصوره ، فههنا تقشعر الجلود ، أما إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون فردا أحدا ، وثبت أن كل متحيز فهو منقسم ، فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله .

                                                                                                                                                                                                                                            وأيضا إذا أراد أن يحيط عقله بمعنى الأزل فيتقدم في ذهنه بمقدار ألف ألف سنة ثم يتقدم أيضا بحسب كل لحظة من لحظات تلك المدة ألف ألف سنة ، ولا يزال يحتال ويتقدم ويتخيل في الذهن ، فإذا بالغ وتوغل وظن أنه استحضر معنى الأزل ، قال العقل : هذا ليس بشيء ، لأن كل ما استحضرته في فهو متناه ، والأزل هو الوجود المتقدم على هذه المدة المتناهية ، فههنا يتحير العقل ويقشعر الجلد ، وأما إذا ترك هذا الاعتبار ، وقال ههنا موجود ، والموجود إما واجب وإما ممكن ، فإن كان واجبا فهو دائما منزه عن الأول والآخر ، وإن كان ممكنا فهو محتاج إلى الواجب فيكون أزليا أبديا ، فإذا اعتبر العقل فهم معنى الأزلية ، فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله ، فثبت أن المقامين المذكورين في الآية لا يجب قصرهما على سماع آية العذاب وآية الرحمة ، بل ذاك أولى تلك المراتب ، وبعده مراتب لا حد لها ولا حصر في حصول تلك الحالتين المذكورتين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : روى الواحدي في " البسيط " عن قتادة أنه قال : القرآن دل على أن أولياء الله موصوفون بأنهم عند المكاشفات والمشاهدات ، تارة تقشعر جلودهم وأخرى تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، وليس فيه أن عقولهم تزول وأن أعضاءهم تضطرب ، فدل هذا على أن تلك الأحوال لو حصلت لكانت من الشيطان ، وأقول : ههنا بحث آخر ، وهو أن الشيخ أبا حامد الغزالي أورد مسألة في كتاب إحياء علوم الدين ، وهي أنا نرى كثيرا من الناس يظهر عليه الوجد الشديد التام عند سماع الأبيات المشتملة على شرح الوصل والهجر ، وعند سماع الآيات لا يظهر عليه شيء من هذه الأحوال ، ثم إنه سلم هذا المعنى وذكر العذر فيه من وجوه كثيرة ، وأنا أقول : إني خلقت محروما عن هذا المعنى ، فإني كلما تأملت في أسرار القرآن اقشعر [ ص: 238 ] جلدي ووقف شعري وحصلت في قلبي دهشة وروعة ، وكلما سمعت تلك الأشعار غلب الهزل علي وما وجدت ألبتة في نفسي منها أثرا ، وأظن أن المنهج القويم والصراط المستقيم هو هذا ، وبيانه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن تلك الأشعار كلمات مشتملة على وصل وهجر وبغض وحب تليق بالخلق ، وإثباته في حق الله تعالى كفر ، وأما الانتقال من تلك الأحوال إلى معان لائقة بجلال الله فلا يصل إليها إلا العلماء الراسخون في العلم ، وأما المعاني التي يشتمل عليها القرآن فهي أحوال لائقة بجلال الله ، فمن وقف عليها عظم الوله في قلبه ، فإن من كان عنده نور الإيمان وجب أن يعظم اضطرابه عند سماع قوله : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) [ الأنعام : 59 ] إلى آخر الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : وهو أني سمعت بعض المشايخ قال : كما أن الكلام له أثر ، فكذلك صدور ذلك الكلام من القائل المعين له أثر ، لأن قوة نفس القائل تعين على نفاذ الكلام في الروح ، والقائل في القرآن هنا هو الله بواسطةجبريل بتبليغ الرسول المعصوم ، والقائل هناك شاعر كذاب مملوء من الشهوة وداعية الفجور .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن مدار القرآن على الدعوة إلى الحق ، قال تعالى : ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) [ الشورى : 53 ] ، وأما الشعر فمداره على الباطل ، قال تعالى : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) [ الشعراء : 224 ] فهذه الوجوه الثلاثة فروق ظاهرة ، وأما ما يتعلق بالوجدان من النفس فإن كل أحد إنما يخبر عما يجده من نفسه ، والذي وجدته من النفس والعقل ما ذكرته ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في بيان ما بقي من المشكلات في هذه الآية ، ونذكرها في معرض السؤال والجواب .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : كيف تركيب لفظ القشعريرة ، الجواب : قال صاحب " الكشاف " : تركيبه من حروف التقشع ، وهو الأديم اليابس ، مضموما إليها حرف رابع ، وهو الراء ؛ ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد ، يقال : اقشعر جلده من الخوف ووقف شعره ، وذلك مثل في شدة الخوف .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : كيف قال : ( تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ) وما الوجه في تعديه بحرف " إلى " ؟ والجواب : التقدير تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله ، وهو لا يحس بالإدراك .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : لم قال " إلى ذكر الله " ، ولم يقل : إلى ذكر رحمة الله ؟ والجواب : أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله ، وإنما أحب شيئا غيره ، وأما من أحب الله لا لشيء سواه ، فهذا هو المحب المحق ، وهو الدرجة العالية ، فلهذا السبب لم يقل : ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله ، بل قال : إلى ذكر الله ، وقد بين الله تعالى هذا المعنى في قوله تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) [ الأنعام : 125 ] ، وفي قوله : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد : 28 ] ، وأيضا قال لأمة موسى : ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) [ البقرة : 40 ] ، وقال أيضا لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - : ( فاذكروني أذكركم ) [ البقرة : 152 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الرابع : لم قال في جانب الخوف قشعريرة الجلود فقط ، وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب معا ؟ والجواب : لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف ، لأن الخير مطلوب بالذات ، والشر مطلوب بالعرض ، ومحل المكاشفات هو القلوب والأرواح ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى لما وصف القرآن بهذه الصفات قال : ( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ) [ ص: 239 ] ، فقوله : ( ذلك ) إشارة إلى الكتاب ، وهو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ، وهو الذي شرح صدره أولا لقبول هذه الهداية ( ومن يضلل الله ) أي من جعل قلبه قاسيا مظلما بليد الفهم منافيا لقبول هذه الهداية ( فما له من هاد ) واستدلال أصحابنا بهذه الآية وسؤالات المعتزلة وجوابات أصحابنا عين ما تقدم في قوله : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) [ الأنعام : 125 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية