الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن المراد من يكون أتقى يكون عند الله أكرم ، أي التقوى تفيد الإكرام .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيهما : أن المراد أن من يكون أكرم عند الله يكون أتقى ، أي الإكرام يورث التقوى ، كما يقال : المخلصون على خطر عظيم ، والأول أشهر ، والثاني أظهر ؛ لأن المذكور ثانيا أن يكون محمولا على المذكور أولا في الظاهر ، فيقال : الإكرام للتقى ، لكن ذوا العموم في المشهور هو الأول ، يقال : ألذ الأطعمة أحلاها ، أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة ، وهي إثبات لكون التقوى متقدمة على كل فضيلة ، فإن قيل : التقوى من الأعمال والعلم أشرف ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد " نقول : التقوى ثمرة العلم ، قال الله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : 28 ] فلا تقوى إلا للعالم ، فالمتقي العالم أتم علمه ، والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمرة لها ، لكن الشجرة المثمرة أشرف من الشجرة التي لا تثمر بل هو حطب ، وكذلك العالم الذي لا يتقي حصب جهنم ، وأما العابد الذي يفضل الله عليه الفقيه فهو الذي لا علم له ، وحينئذ لا يكون عنده من خشية الله نصاب كامل ، ولعله يعبده مخافة [ ص: 120 ] الإلقاء في النار فهو كالمكره ، أو لدخول الجنة فهو يعمل كالفاعل له أجرة ويرجع إلى بيته ، والمتقي هو العالم بالله ، المواظب لبابه ، أي المقرب إلى جنابه عنده يبيت ، وفيه مباحث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : الخطاب مع الناس ، والأكرم يقتضي اشتراك الكل في الكرامة ، ولا كرامة للكافر ، فإنه أضل من الأنعام وأذل من الهوام . نقول : ذلك غير لازم مع أنه حاصل بدليل قوله تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم ) [ الإسراء : 70 ] لأن كل من خلق فقد اعترف بربه ، كأنه تعالى قال : من استمر عليه لو زاد زيد في كرامته ، ومن رجع عنه أزيل عنه أثر الكرامة . الثاني : ما حد التقوى ومن الأتقى ؟ نقول : أدنى مراتب التقوى أن يجتنب العبد المناهي ويأتي بالأوامر ، ولا يقر ولا يأمن إلا عندهما ، فإن اتفق أن ارتكب منهيا لا يأمن ولا يتكل له بل يتبعه بحسنة ويظهر عليه ندامة وتوبة ، ومتى ارتكب منهيا وما تاب في الحال واتكل على المهلة في الأجل ومنعه عن التذاكر طول الأمل - فليس بمتق . أما الأتقى فهو الذي يأتي بما أمر به ويترك ما نهي عنه ، وهو مع ذلك خاش ربه لا يشتغل بغير الله ، فينور الله قلبه ، فإن التفت لحظة إلى نفسه أو ولده جعل ذلك ذنبه ، وللأولين النجاة ؛ لقوله تعالى : ( ثم ننجي الذين اتقوا ) [ مريم : 72 ] وللآخرين السوق إلى الجنة ؛ لقوله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) فبين من أعطاه السلطان بستانا وأسكنه فيه ، وبين من استخلصه لنفسه يستفيد كل يوم بسبب القرب منه بساتين وضياعا بون عظيم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إن الله عليم خبير ) أي عليم بظواهركم ، يعلم أنسابكم ، خبير ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم ، فاجعلوا التقوى عملكم ، وزيدوا في التقوى كما زادكم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية