الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر تسيير أبي ذر إلى الربذة

وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر ، وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة ، وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة ، من سب معاوية إياه وتهديده بالقتل ، وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع ، لا يصح النقل به ، ولو صح لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان ، فإن للإمام أن يؤدب رعيته ، وغير ذلك من [ ص: 484 ] الأعذار ، لا أن يجعل ذلك سببا للطعن عليه ، كرهت ذكرها .

وأما العاذرون فإنهم قالوا : لما ورد ابن السوداء إلى الشام لقي أبا ذر فقال : يا أبا ذر ألا تعجب من معاوية يقول : المال مال الله ! ألا إن كل شيء لله ، كأنه يريد أن يحتجبه دون الناس ، ويمحو اسم المسلمين . فأتاه أبو ذر فقال : ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله الساعة ؟ قال : يرحمك الله يا أبا ذر ! ألسنا عباد الله والمال ماله ؟ قال : فلا تقله . قال : سأقول مال المسلمين . وأتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له مثل ذلك . فقال : أظنك [ والله ] يهوديا ! فأتى عبادة بن الصامت ، فتعلق به عبادة وأتى به معاوية فقال : هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر .

وكان أبو ذر يذهب إلى أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته ، أو شيء ينفقه في سبيل الله ، أو يعده لكريم ، ويأخذ بظاهر القرآن ( الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) . فكان يقوم بالشام ويقول : يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء ، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء ، وشكا الأغنياء ما يلقون منهم . فأرسل معاوية إليه بألف دينار في جنح الليل فأنفقها . فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه فقال : اذهب إلى أبي ذر فقل له : أنقذ جسدي من عذاب معاوية ، فإنه أرسلني إلى غيرك وإني أخطأت بك . ففعل ذلك . فقال له أبو ذر : يا بني قل له : والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها . فلما رأى معاوية أن فعله يصدق قوله كتب إلى عثمان : إن أبا ذر قد ضيق علي ، وقد كان كذا وكذا ، للذي يقوله الفقراء . فكتب إليه عثمان : إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها ولم يبق إلا أن تثب ، فلا تنكأ القرح ، وجهز أبا ذر إلي ، وابعث معه دليلا وكفكف الناس ونفسك ما استطعت . وبعث إليه بأبي ذر .

فلما قدم المدينة ، ورأى المجالس في أصل جبل سلع قال : بشر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار . ودخل على عثمان فقال له : ما لأهل الشام يشكون ذرب لسانك ؟ [ ص: 485 ] فأخبره . فقال : يا أبا ذر علي أن أقضي ما علي ، وأن أدعو الرعية إلى الاجتهاد والاقتصاد ، وما علي أن أجبرهم على الزهد . فقال أبو ذر : لا ترضوا من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ، ويحسنوا إلى الجيران والإخوان ، ويصلوا القرابات . فقال كعب الأحبار ، وكان حاضرا : من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه . فضربه أبو ذر فشجه ، وقال له : يا ابن اليهودية ما أنت وما هاهنا ؟ فاستوهب عثمان كعبا شجته ، فوهبه . فقال أبو ذر لعثمان : تأذن لي في الخروج من المدينة ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعا . فأذن له ، فنزل الربذة وبنى بها مسجدا ، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل ، وأعطاه مملوكين وأجرى عليه كل يوم عطاء ، وكذلك على رافع بن خديج ، وكان قد خرج أيضا عن المدينة لشيء سمعه .

وكان أبو ذر يتعاهد المدينة مخافة أن يعود أعرابيا ، أخرج معاوية إليه أهله ، فخرجوا ومعهم جراب مثقل يد الرجل ، فقال : انظروا إلى هذا الذي يزهد في الدنيا ما عنده ؟ فقالت امرأته : والله ما هو دينار ولا درهم ، ولكنها فلوس ، كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوسا لحوائجنا . ولما نزل الربذة أقيمت الصلاة وعليها رجل يلي الصدقة ، فقال : تقدم يا أبا ذر . فقال : لا ، تقدم أنت ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي : اسمع وأطع وإن كان عليك عبد مجدع ، فأنت عبد ولست بأجدع ، وكان من رقيق الصدقة اسمه مجاشع .

ذكر عدة حوادث

في هذه السنة زاد عثمان النداء الثالث يوم الجمعة على الزوراء . [ الوفيات ]

وفيها مات حاطب بن أبي بلتعة اللخمي وهو من أهل بدر .

[ ص: 486 ] ( حاطب : بالحاء المهملة . وبلتعة بالباء الموحدة ، ثم التاء المثناة من فوق بوزن مقرعة ) .

وفيها مات عمرو بن أبي سرح الفهري ، وكان بدريا . وفيها مات مسعود بن الربيع ، وقيل : ابن ربيعة بن عمرو القاري - من القارة - أسلم قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم ، وشهد بدرا ، وكان عمره قد جاوز الستين . وفيها مات عبد الله بن كعب بن عمرو الأنصاري ، شهد بدرا ، وكان على غنائم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها وفي غيرها . وفيها مات عبد الله بن مظعون أخو عثمان وكان بدريا ، وجبار بن صخر ، وهو بدري أيضا .

[ ص: 487 ] ( جبار : بالجيم وآخره راء ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية