الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

في ألفاظ الطلاق المقيدة

والطلاق المقيد لا يخلو من قسمين : إما تقييد اشتراط ، أو تقييد استثناء . والتقييد المشترط لا يخلو أن يعلق بمشيئة من له اختيار ، أو بوقوع فعل من الأفعال المستقبلة ، أو بخروج شيء مجهول العلم إلى الوجود على ما يدعيه المعلق للطلاق به مما لا يتوصل إلى علمه إلا بعد خروجه إلى الحس ، أو إلى [ ص: 458 ] الوجود ، أو بما لا سبيل إلى الوقوف عليه مما هو ممكن أن يكون أو لا يكون .

فأما تعليق الطلاق بالمشيئة : فإنه لا يخلو أن يعلقه بمشيئة الله ، أو بمشيئة مخلوق :

فإذا علقه بمشيئة الله وسواء علقه على جهة الشرط ( مثل أن يقول : أنت طالق إن شاء الله ) أو على جهة الاستثناء ( مثل أن يقول : أنت طالق إلا أن يشاء الله ) : فإن مالكا قال : لا يؤثر الاستثناء في الطلاق شيئا وهو واقع ولا بد . وقال أبو حنيفة والشافعي : إذا استثنى المطلق مشيئة الله لم يقع الطلاق .

وسبب الخلاف : هل يتعلق الاستثناء بالأفعال الحاضرة الواقعة كتعلقه بالأفعال المستقبلة أو لا يتعلق ؟ وذلك أن الطلاق هو فعل حاضر :

فمن قال لا يتعلق به قال : لا يؤثر الاستثناء ولا اشتراط المشيئة في الطلاق . ومن قال يتعلق به قال : يؤثر فيه .

وأما إن علق الطلاق بمشيئة من تصح مشيئته ، ويتوصل إلى علمها : فلا خلاف في مذهب مالك أن الطلاق يقف على اختيار الذي علق الطلاق بمشيئته .

وأما تعليق الطلاق بمشيئة من لا مشيئة له : ففيه خلاف في المذهب ، قيل : يلزمه الطلاق ، وقيل : لا يلزمه ، والصبي والمجنون داخلان في هذا المعنى .

فمن شبهه بطلاق الهزل ; وكان الطلاق بالهزل عنده يقع قال : يقع هذا الطلاق . ومن اعتبر وجود الشرط قال : لا يقع لأن الشرط قد عدم هاهنا .

وأما تعليق الطلاق بالأفعال المستقبلة : فإن الأفعال التي يعلق بها توجد على ثلاثة أضرب :

أحدها : ما يمكن أن يقع أو لا يقع على السواء ، كدخول الدار وقدوم زيد ، فهذا يقف وقوع الطلاق فيه على وجود الشرط بلا خلاف .

وأما ما لا بد من وقوعه كطلوع الشمس غدا ، فهذا يقع ناجزا عند مالك ، ويقف وقوعه عند الشافعي وأبي حنيفة على وجود الشرط . فمن شبهه بالشرط الممكن الوقوع قال : لا يقع إلا بوقوع الشرط . ومن شبهه بالوطء الواقع في الأجل بنكاح المتعة لكونه وطئا مستباحا إلى أجل قال : يقع الطلاق .

والثالث : هو الأغلب منه بحسب العادة وقوع الشرط ، وقد لا يقع كتعليق الطلاق بوضع الحمل ومجيء الحيض والطهر ، ففي ذلك روايتان عن مالك : إحداهما : وقوع الطلاق ناجزا . والثانية : وقوعه على وجود شرطه ، وهو الذي يأتي على مذهب أبي حنيفة والشافعي .

والقول بإنجاز الطلاق في هذا يضعف لأنه مشبه عنده بما يقع ولا بد ، والخلاف فيه قوي .

وأما تعليق الطلاق بالشرط المجهول الوجود : فإن كان لا سبيل إلى علمه مثل أن يقول : إن كان خلق الله اليوم في بحر القلزم حوتا بصفة كذا فأنت طالق ; فلا خلاف أعلمه في المذهب أن الطلاق يقع في هذا ، وأما إن علقه بشيء يمكن أن يعلم بخروجه إلى الوجود مثل أن يقول : إن ولدت أنثى فأنت طالق ; فإن الطلاق يتوقف على خروج ذلك الشيء إلى الوجود . وأما إن حلف بالطلاق أنها تلد أنثى ، فإن الطلاق في الحين يقع عنده وإن ولدت أنثى ، وكان هذا من باب التغليظ ، والقياس يوجب أن يوقف الطلاق على خروج ذلك الشيء أو ضده .

[ ص: 459 ] ومن قول مالك إنه إذا أوجب الطلاق على نفسه بشرط أن يفعل فعلا من الأفعال أنه لا يحنث حتى يفعل ذلك الفعل ، وإذا أوجب الطلاق على نفسه بشرط ترك فعل من الأفعال فإنه على الحنث حتى يفعل، ويوقف عنده عن وطء زوجته ، فإن امتنع عن ذلك الفعل أكثر من مدة أجل الإيلاء ضرب له أجل الإيلاء ، ولكن لا يقع عنده حتى يفوت الفعل إن كان مما يقع فوته . ومن العلماء من يرى أنه على بر حتى يفوت الفعل ، وإن كان مما لا يفوت كان على البر حتى يموت .

ومن هذا الباب اختلافهم في تبعيض المطلقة ، أو تبعيض الطلاق ، وإرداف الطلاق على الطلاق :

فأما مسألة تبعيض المطلقة : فإن مالكا قال : إذا قال يدك أو رجلك أو شعرك طالق طلقت عليه . وقال أبو حنيفة : لا تطلق إلا بذكر عضو يعبر به عن جملة البدن كالرأس والقلب والفرج ، وكذلك تطلق عنده إذا طلق الجزء منها ، مثل الثلث أو الربع . وقال داود : لا تطلق .

وكذلك إذا قال عند مالك : طلقتك نصف تطليقة طلقت ، لأن هذا كله عنده لا يتبعض . وعند المخالف إذا تبعض لم يقع .

وأما إذا قال لغير المدخول بها : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، نسقا ، فإنه يكون ثلاثا عند مالك . وقال أبو حنيفة والشافعي : يقع واحدة .

فمن شبه تكرار اللفظ بلفظه بالعدد ( أعني : بقوله طلقتك ثلاثا ) قال : يقع الطلاق ثلاثا . ومن رأى أنه باللفظة الواحدة قد بانت منه قال : لا يقع عليها الثاني والثالث . ولا خلاف بين المسلمين في ارتدافه في الطلاق الرجعي .

وأما الطلاق المقيد بالاستثناء : فإنما يتصور في العدد فقط ، فإذا طلق أعدادا من الطلاق ، فلا يخلو من ثلاثة أحوال :

إما أن يستثني ذلك العدد بعينه ، مثل أن يقول : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ، أو اثنتين إلا اثنتين . وإما أن يستثني ما هو أقل .

وإذا استثنى ما هو أقل : فإما أن يستثني ما هو أقل مما هو أكثر ، وإما أن يستثني ما هو أكثر مما هو أقل :

فإذا استثنى الأقل من الأكثر ; فلا خلاف أعلمه أن الاستثناء يصح ويسقط المستثنى ، مثل أن يقول : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة .

وأما إن استثنى الأكثر من الأقل فيتوجه فيه قولان :

أحدهما : أن الاستثناء لا يصح ، وهو مبني على منع أن يستثنى الأكثر من الأقل .

والآخر : أن الاستثناء يصح ، وهو قول مالك .

وأما إذا استثنى ذلك العدد بعينه مثل أن يقول : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ، فإن مالكا قال : يقع الطلاق ، لأنه اتهمه على أنه رجوع منه . وأما إذا لم يقل بالتهمة وكان قصده بذلك استحالة وقوع الطلاق فلا طلاق عليه ، كما لو قال : أنت طالق لا طالق معا ، فإن وقوع الشيء مع ضده مستحيل . وشذ أبو محمد بن حزم ، فقال : لا يقع الطلاق بصفة لم تقع بعد ، ولا بفعل لم يقع ، لأن الطلاق لا يقع في وقت وقوعه إلا بإيقاع [ ص: 460 ] من يطلق في ذلك الوقت ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على وقوع طلاق في وقت لم يوقعه فيه المطلق ، وإنما ألزم نفسه إيقاعه فيه ، فإن قلنا باللزوم لزم أن يوقف عند ذلك الوقت حتى يوقع ، هذا قياس قوله عندي وحجته ، وإن كنت لست أذكر في هذا الوقت احتجاجه في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية