الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الخلاف في المسح على الخفين

قال أصحابنا جميعا والثوري والحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي : ( يمسح المقيم على الخفين يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها ) . وروي عن مالك والليث : ( أنه لا وقت للمسح على الخفين ، إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان يمسح ما بدا له ) ، قال مالك : ( والمقيم والمسافر في ذلك سواء ) ، وأصحابه يقولون : هذا هو الصحيح من مذهبه ؛ وروى عنه ابن القاسم : ( أن المسافر يمسح ولا يمسح المقيم ) ، وروى ابن القاسم أيضا عن مالك أنه ضعف المسح على الخفين . قال أبو بكر : قد ثبت المسح على الخفين عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق التواتر والاستفاضة من حيث يوجب العلم ؛ ولذلك قال أبو يوسف : إنما يجوز نسخ القرآن بالسنة إذا وردت كورود المسح على الخفين في الاستفاضة . وما دفع أحد من الصحابة من حيث نعلم المسح على الخفين ، ولم يشك أحد منهم في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مسح ، وإنما اختلف في وقت مسحه أكان قبل نزول المائدة أو بعدها ؟ فروى المسح موقتا للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها عن النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعلي وصفوان بن عسال وخزيمة بن ثابت وعوف بن مالك وابن عباس وعائشة ، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير موقت سعد بن أبي وقاص وجرير بن عبد الله البجلي وحذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبة وأبو أيوب الأنصاري وسهل بن سعد وأنس بن مالك وثوبان وعمرو بن أمية عن أبيه وسليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وروى الأعمش عن إبراهيم عن همام عن جرير بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على خفيه . قال الأعمش : قال إبراهيم : كانوا معجبين بحديث جرير لأنه أسلم بعد نزول المائدة . ولما كان ورود هذه الأخبار على الوجه الذي ذكرنا من الاستفاضة مع كثرة عدد ناقليها وامتناع التواطؤ والسهو والغفلة عليهم فيها ، وجب استعمالها مع حكم الآية .

وقد بينا أن في الآية احتمالا للمسح ، فاستعملناه في حال لبس الخفين واستعملنا الغسل في حال ظهور [ ص: 354 ] الرجلين ، فلا فرق بين أن يكون مسح النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول المائدة أو بعدها ، من قبل أنه إن كان مسح قبل نزول الآية فالآية مرتبة عليه غير ناسخة له لاحتمالها ما يوجب موافقته من المسح في حال لبس الخفين ولأنه لو لم يكن فيها احتمال لموافقة الخبر لجاز أن تكون مخصوصة به فيكون الأمر بالغسل خاصا في حال ظهور الرجلين دون حال لبس الخفين ، وإن كانت الآية متقدمة للمسح فإنما جاز المسح لموافقة ما احتملته الآية ، ولا يكون ذلك نسخا ولكنه بيان للمراد بها ، وإن كان جائزا نسخ الآية بمثله لتواتره وشيوعه .

ومن حيث ثبت المسح على الخفين ثبت التوقيت فيه للمقيم والمسافر على ما بينا ؛ لأن بمثل الأخبار الواردة في المسح مطلقا ثبت التوقيت أيضا ، فإن بطل التوقيت بطل المسح وإن ثبت المسح ثبت التوقيت . فإن احتج المخالف في ذلك بما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعقبة بن عامر حين قدم عليه وقد مسح على خفيه جمعة : ( أصبت السنة ) ، وبما روى حماد بن زيد عن كثير بن شنظير عن الحسن ، أنه سئل عن المسح على الخفين في السفر فقال : كنا نسافر مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يوقتون .

قيل له : قد روى سعيد بن المسيب عن عمر أنه قال لابنه عبد الله حين أنكر على سعد المسح على الخفين : ( يا بني عمك أفقه منك ، للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة ) سويد بن غفلة عن عمر أنه قال : ( ثلاثة أيام ولياليها للمسافر ويوم وليلة للمقيم ) وقد ثبت عن عمر التوقيت على الحد الذي بيناه ، فاحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم لعقبة حين مسح على خفيه جمعة : ( أصبت السنة ) يعني : أنك أصبت السنة في المسح ، وقوله : ( إنه مسح جمعة ) إنما عنى به أنه مسح جمعة على الوجه الذي يجوز عليه المسح ، كما يقول القائل : ( مسحت شهرا على الخفين ) وهو يعني على الوجه الذي يجوز فيه المسح ؛ لأنه معلوم أنه لم يرد به أنه مسح جمعة دائما لا يفتر ، وإنما أراد به المسح في الوقت الذي يحتاج فيه إلى المسح ، كذلك إنما أراد الوقت الذي يجوز فيه المسح .

وكما تقول : ( صليت الجمعة شهرا بمكة ) والمعنى : في الأوقات التي يجوز فيها فعل الجمعة . وأما قول الحسن : ( إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين سافر معهم كانوا لا يوقتون ) فإنه إنما عنى به والله أعلم أنهم ربما خلعوا الخفاف فيما بين يومين أو ثلاثة ، وأنهم لم يكونوا يداومون على مسح الثلاث حسبما قد جرت به العادة من الناس أنهم ليسوا يكادون يتركون خفافهم لا ينزعونها ثلاثا ؛ فلا دلالة فيه على أنهم كانوا يمسحون أكثر من ثلاث .

فإن قيل : في حديث خزيمة بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : المسح على [ ص: 355 ] الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة ولو استزدناه لزادنا . وفي حديث أبي بن عمارة أنه قال : يا رسول الله أمسح على الخفين ؟ قال : ( نعم ) قال : يوما ؟ قال : ( ويومين ) قال : وثلاثة ؟ قال : ( نعم ، وما شئت ) . وفي حديث آخر قال : حتى بلغ سبعا . قيل له : أما حديث خزيمة وما قيل فيه ( ولو استزدناه لزادنا ) فإنما هو ظن من الراوي ، والظن لا يغني من الحق شيئا . وأما حديث أبي بن عمارة ، فقد قيل : إنه ليس بالقوي ، وقد اختلف في سنده ، ولو ثبت كان قوله : ( وما شئت ) على أنه يمسح بالثلاث ما شاء ، وغير جائز الاعتراض على أخبار التوقيت بمثل هذه الأخبار الشاذة المحتملة للمعاني مع استفاضة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتوقيت .

فإن قيل : لما جاز المسح وجب أن يكون غير موقت كمسح الرأس . قيل له : لا حظ للنظر مع الأثر ، فإن كانت أخبار التوقيت ثابتة فالنظر معها ساقط ، وإن كانت غير ثابتة فالكلام حينئذ ينبغي أن يكون في إثباتها ، وقد ثبت التوقيت بالأخبار المستفيضة من حيث لا يمكن دفعها . وأيضا فإن الفرق بينهما ظاهر من طريق النظر ، وهو أن مسح الرأس هو المفروض في نفسه وليس ببدل عن غيره ، والمسح على الخفين بدل عن الغسل مع إمكانه من غير ضرورة ، فلم يجز إثباته بدلا إلا في المقدار الذي ورد به التوقيت .

فإن قيل : قد جاز المسح على الجبائر بغير توقيت وهو بدل عن الغسل . قيل له : أما على مذهب أبي حنيفة فهذا السؤال ساقط ؛ لأنه لا يوجب المسح على الجبائر ، وهو عنده مستحب تركه لا يضر . وعلى قول أبي يوسف ومحمد أيضا لا يلزم لأنه إنما يفعله عند الضرورة كالتيمم ، والمسح على الخفين جائز بغير ضرورة ؛ فلذلك اختلفا .

فإن قيل : ما أنكرت أن يكون جواز المسح مقصورا على السفر لأن الأخبار وردت فيه ، وأن لا يجوز في الحضر لما روي أن عائشة سئلت عن ذلك فقالت : ( سلوا عليا فإنه كان معه في أسفاره ) ؛ وهذا يدل على أنه لم يمسح في الحضر ؛ لأن مثله لا يخفى على عائشة ؟ قيل له : يحتمل أن تكون سئلت عن توقيت المسح للمسافر فأحالت به على علي رضي الله عنه . وأيضا فإن عائشة أحد من روى توقيت المسح للمسافر والمقيم جميعا . وأيضا فإن الأخبار التي فيها توقيت مسح المسافر فيها توقيته للمقيم ، فإن ثبت للمسافر ثبت للمقيم .

فإن قيل : قد تواترت الأخبار بغسله في الحضر وقوله : ويل للعراقيب من النار . قيل له : إنما ذلك في حال ظهور الرجلين .

فإن قيل : جائز أن يختص حال السفر بالتخفيف دون حال الحضر كالقصر والتيمم والإفطار . قيل له : لم نبح المسح للمقيم ولا للمسافر [ ص: 356 ] قياسا ، وإنما أبحناه بالآثار ، وهي متساوية فيما يقتضيه من المسح في السفر والحضر ، فلا معنى للمقايسة .

واختلف الفقهاء أيضا في المسح من وجه آخر ، فقال أصحابنا : ( إذا غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل الطهارة قبل الحدث أجزأه أن يمسح إذا أحدث ) ، وهو قول الثوري ؛ وروي عن مالك مثله . وذكر الطحاوي عن مالك والشافعي : ( أنه لا يجزيه إلا أن يلبس خفيه بعد إكمال الطهارة ) ودليل أصحابنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم : يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق بين لبسه قبل إكمال الطهارة وبعدها .

وروى الشعبي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ، فأهويت إلى خفيه لأنزعهما ، فقال : مه فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان فمسح عليهما . وروي عن عمر بن الخطاب قال : ( إذا أدخلت قدميك الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما ) . ومن غسل رجليه فقد طهرتا قبل إكمال طهارة سائر الأعضاء ، كما يقال : غسل رجليه ، وكما يقال : صلى ركعة ؛ وإن لم يتم صلاته . وأيضا فإن من لا يجيز ذلك فإنما يأمره بنزع الخفين ثم لبسهما كذلك بقاؤهما في رجليه لحين المسح ؛ لأن استدامة اللبس بمنزلة ابتدائه .

التالي السابق


الخدمات العلمية