الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      والحق الوقوف في صفة التيمم على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار ، من الاقتصار على ضربة واحدة للوجه والكفين.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1268 ] قال عمار : أجنبت فلم أصب الماء، فتمعكت في الصعيد، وصليت، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما كان يكفيك هكذا، وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه متفق عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي لفظ: إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين رواه الدارقطني .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد وأبو داود ، عن عمار بن ياسر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في التيمم: ضربة للوجه واليدين .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي لفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالتيمم للوجه والكفين رواه الترمذي وصححه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عبد البر : أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة، وأما الجواب عن المتفق عليه من حديث عمار بأن المراد منه بيان صورة الضرب وليس المراد منه جميع ما يحصل به التيمم - فتكلف واضح، ومخالفة للظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد سرى هذا إلى العلامة السندي في "حواشي البخاري " حيث كتب على حديث عمار ما نصه: قد استدل المصنف (يعني البخاري ) بهذا الحديث على عدم لزوم الذراعين في التيمم في موضع، وعلى عدم وجوب الضربة الثانية في موضع آخر، وكذا سيجيء في روايات هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قدم في هذه الواقعة الكفين على الوجه، فاستدل به القائل لعدم لزوم الترتيب، فلعل القائل بخلاف ذلك يقول: إن هذا الحديث ليس مسوقا لبيان عدد الضربات ولا لبيان تحديد اليد في التيمم ولا لبيان عدم لزوم الترتيب، بل ذلك أمر مفوض إلى أدلة خارجة، وإنما هو مسوق لرد ما زعمه عمار من أن الجنب يستوعب البدن كله، والقصر في قوله: (إنما كان يكفيك) معتبر بالنسبة إليه، كما هو القاعدة أن القصر [ ص: 1269 ] يعتبر بالنظر إلى زعم المخاطب، فالمعنى: إنما يكفيك استعمال الصعيد في عضوين: وهما الوجه واليد.

                                                                                                                                                                                                                                      وأشار إلى اليد بـ(الكف) ولا حاجة إلى استعماله في تمام البدن، وعلى هذا يستدل على عدد الضربات وتحديد اليد ولزوم الترتيب أو عدمه بأدلة أخر، كحديث: التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين وغير ذلك، فإنه صحيح كما نص عليه بعض الحفاظ، وهو مسوق لمعرفة عدد الضربات وتحديد اليد، فيقدم على غير المسوق لذلك، والله تعالى أعلم. انتهى كلامه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (فإنه حديث صحيح) فيه ما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" في (فصل: هديه صلى الله عليه وسلم بالتيمم) ما نصه: كان - صلى الله عليه وسلم - يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين، ولم يصح عنه أنه تيمم بضربتين، ولا إلى المرفقين.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الإمام أحمد : من قال: إن التيمم إلى المرفقين فإنما هو شيء زاده من عنده، وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها ترابا كانت أو سبخة أو رملا.

                                                                                                                                                                                                                                      وصح عنه أنه قال: حيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل فالرمل له طهور .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما سافر - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وماؤهم في غاية القلة، ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب، ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه، مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب، وكذلك أرض الحجاز وغيره، ومن تدبر هذا قطع بأنه كان يتيمم بالرمل، والله أعلم، وهذا قول الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى، ثم إمرارها إلى المرفق، ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع، وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن، إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى، فيطبقها عليها، فهذا مما يعلم قطعا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله، ولا علمه أحدا من أصحابه، ولا أمر به، ولا استحسنه، وهذا هديه، إليه التحاكم، وكذلك لم يصح عنه التيمم لكل صلاة، ولا أمر به، بل أطلق، وجعله قائما مقام الوضوء وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكمه، إلا فيما اقتضى الدليل خلافه. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1270 ] السابعة: ذكر هنا الحافظ ابن كثير سبب مشروعية التيمم قال: وإنما ذكرنا ذلك ههنا لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة، وبيانه: أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر، والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير، في محاصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني النضير، وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل، ولا سيما صدرها، فناسب أن يذكر السبب هنا، وبالله الثقة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ، حدثنا هشام ، عن أبيه، عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجالا في طلبها، فوجدوها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوها بغير وضوء، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل التيمم، فقال أسيد بن الحضير لعائشة : جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا.

                                                                                                                                                                                                                                      (طريق أخرى) قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أنبأنا مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت عائشة : فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، فجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1271 ] حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.

                                                                                                                                                                                                                                      قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.


                                                                                                                                                                                                                                      وقد رواه البخاري أيضا عن قتيبة بن سعيد ، عن مالك.

                                                                                                                                                                                                                                      ورواه مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، عن مالك .

                                                                                                                                                                                                                                      انتهى كلام ابن كثير .

                                                                                                                                                                                                                                      وأورد الواحدي في "أسباب النزول" هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن العربي: لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن بطال : هي آية النساء أو آية المائدة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القرطبي: هي آية النساء، ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء، فيتجه تخصيصها بآية التيمم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أن [ ص: 1272 ] المراد بها آية المائدة بغير تردد لرواية عمرو بن الحارث ؛ إذ صرح فيها بقوله: فنزلت: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحافظ قبل: استدل به (أي: بحديث عائشة ) على أن الوضوء كان واجبا عليهم قبل نزول آية الوضوء، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء، ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عبد البر : معلوم عند جميع أهل المغازي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل منذ افترضت الصلاة عليه إلا بوضوء، ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: وفي قوله في هذا الحديث: (آية التيمم) إشارة إلى أن الذي طرأ عليهم من العلم حينئذ حكم التيمم لا حكم الوضوء، قال: والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به ليكون فرضه متلوا بالتنزيل.

                                                                                                                                                                                                                                      قال السيوطي في "لباب النقول" بعد تصويب هذا الكلام: فإن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة ، والآية مدنية. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحافظ ابن حجر أيضا في قول أسيد (ما هي بأول بركتكم): يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيقوي قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباري فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع .. الحديث.

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق؛ لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة، وهي بعدها بلا خلاف.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: وسيأتي في المغازي أن البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى ، وقدومه كان في وقت إسلام أبي هريرة ، ومما يدل على تأخر القصة أيضا عن قصة الإفك ما رواه الطبراني من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر : يا بنية! في كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس؟ فأنزل الله عز وجل الرخصة [ ص: 1273 ] في التيمم.

                                                                                                                                                                                                                                      فقال أبو بكر : إنك لمباركة (ثلاثا) وفي إسناده محمد بن حميد الرازي ، وفيه مقال.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي سياقه من الفوائد بيان عتاب أبي بكر الذي أبهم في حديث الباب، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام شمس الدين ابن القيم في "زاد المعاد" في (غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق): إنها كانت في شعبان سنة خمس، وبعد ذكرها قال: قال ابن سعد : وفي هذه الغزوة سقط عقد لعائشة فاحتبسوا على طلبه، فنزلت آية التيمم، ثم ساق حديث الطبراني المتقدم، وقال: هذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة، وهو الظاهر، ولكن فيها كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه، فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي سبب نزول الآية المذكورة أيضا عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرس بأولات الجيش ومعه عائشة ، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء، فتغيظ عليها أبو بكر ، وقال: حبست الناس وليس معهم ماء! فأنزل الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط.

                                                                                                                                                                                                                                      ورواه أيضا ابن جرير ، عن أبي اليقظان - رضي الله عنه - قال: [ ص: 1274 ] كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهلك عقد لعائشة فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أضاء الصبح، فتغيظ أبو بكر على عائشة ، فنزلت عليه الرخصة، المسح بالصعيد، فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة، نزل فيك رخصة، فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في سبب نزولها وجها آخر، عن الأسلع بن شريك - رضي الله عنه - قال: كنت أرحل ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ثم رضفت أحجارا فأسخنت بها ماء واغتسلت، ثم لحقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فقال: يا أسلع ! ما لي أرى رحلتك قد تغيرت؟ قلت: يا رسول الله! لم أرحلها، رحلها رجل من الأنصار، قال: ولم؟ قلت: إني أصابتني جنابة فخشيت القر على نفسي، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به، فأنزل الله عز وجل: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إلى قوله: إن الله كان عفوا غفورا

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : وقد روي من وجه آخر عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية