الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية ، يدل على أن الاستنجاء ليس بفرض وأن الصلاة جائزة مع تركه إذا لم يتعد الموضع وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فأجاز أصحابنا صلاته وإن كان مسيئا في تركه . وقال الشافعي : ( لا يجزيه إذا تركه رأسا ) . وظاهر الآية يدل على صحة القول الأول . وروي في التفسير أن معناه : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون ؛ وقال في نسق الآية : أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا فحوت هذه الآية الدلالة من وجهين على ما قلنا :

أحدهما : إيجابه على المحدث غسل هذه الأعضاء ، وإباحة الصلاة به ؛ وموجب الاستنجاء فرضا مانع ما أباحته الآية وذلك يوجب النسخ ، وغير جائز نسخ الآية إلا بما يوجب العلم من النقل المتواتر وذلك غير معلوم في إيجاب الاستنجاء . ومع ذلك فإنهم متفقون على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها ثابتة الحكم ، وفي اتفاقهم على ذلك ما يبطل قول موجبي الاستنجاء فرضا .

والوجه الآخر من دلالة الآية : قوله تعالى : أو جاء أحد منكم من الغائط إلى آخرها ؛ فأوجب التيمم على من جاء من الغائط ، وذلك كناية عن قضاء الحاجة ، فأباح صلاته بالتيمم من غير استنجاء ، فدل ذلك على أنه غير فرض ويدل عليه من جهة السنة حديث علي بن يحيى بن خلاد عن [ ص: 367 ] أبيه عن عمه رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تتم صلاة أحدكم حتى يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه فأباح صلاته بعد غسل هذه الأعضاء مع ترك الاستنجاء . ويدل عليه أيضا حديث الحصين الحراني عن أبي سعيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ، ومن اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج فنفى الحرج عن تارك الاستجمار ، فدل على أنه ليس بفرض .

فإن قيل : إنما نفى الحرج عن تاركه إلى الماء . قيل له : هذا خطأ من وجهين :

أحدهما : أنه أجاز تركه من غير استعمال الماء ، ومن ادعى تركه إلى الاستنجاء بالماء فإنما خصه بغير دلالة .

والثاني : أنه تسقط فائدته ؛ لأنه معلوم أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالأحجار ، فغير جائز أن ينفي الحرج عن فاعل الأفضل ، هذا ممتنع مستحيل لا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ كان وضعا للكلام في غير موضعه .

فإن قيل : في حديث سلمان : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجتزئ بدون ثلاثة أحجار ، وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم : فليستنج بثلاثة أحجار وأمره على الوجوب ، فيحمل قوله : ( فلا حرج ) على ما لا يسقط إيجاب الأمر ، وهو أن يكون إنما نفى الحرج عمن لم يستجمر وترا ويفعله شفعا ، لا بأن يتركه أصلا ، أو على أن يتركه إلى الماء ليسلم لنا مقتضى الأمر من الإيجاب . قيل له : بل نجمع بينهما ونستعملهما ولا نسقط أحدهما بالآخر ، فنجعل أمره بالاستنجاء ونهيه عن تركه على الندب ، ونستعمل معه قوله صلى الله عليه وسلم : ( ومن لا فلا حرج ) في نفي الإيجاب ؛ ولو استعمل على ما ذكرت كان فيه إسقاط أحدهما أصلا ، لا سيما إذا كان خبرنا موافقا لما تضمنه نص الآية من دلالتها على جواز الصلاة مع تركه . ويدل على أنه غير فرض وعلى جواز الصلاة مع تركه اتفاق الجميع على جواز صلاة المستنجي بالأحجار مع وجود الماء وعدم الضرورة في العدول عنه إلى الأحجار ، ولو كان الاستنجاء فرضا لكان الواجب أن يكون بالماء دون الأحجار ، كسائر البدن إذا أصابته نجاسة كثيرة لا تجوز الصلاة بإزالتها بالأحجار دون غسلها بالماء إذا كان موجودا ؛ وفي ذلك دليل على أن هذا القدر من النجاسة معفو عنه .

فإن قيل : أنت تجيز فرك المني من الثوب إذا كان يابسا ولم يدل ذلك على جواز الصلاة مع تركه إذا كان كثيرا ، فكذلك موضع الاستنجاء مخصوص بجواز الصلاة مع إزالته بالأحجار . قيل له : إنما أجزنا ذلك في المني وإن كان نجسا لخفة حكمه في نفسه ، ألا ترى أنه لا يختلف حكمه في أي موضع أصابه من ثوبه [ ص: 368 ] في جواز فركه ؟ فأما بدن الإنسان فلا يختلف حكم شيء منه في عدم جواز إزالة النجاسة عنه بغير ما يزيله من الماء وسائر المائعات ، وكذلك حكم النجاسة التي على موضع الاستنجاء لا يختلف في تغليظ حكمها ، فواجب أن لا يختلف حكمها في ذلك الموضع وفي سائر البدن . وكذلك إن سألونا عن حكم النجاسة التي لها جرم قائم في الخف أنه يطهر بالدلك بعد الجفاف ولو أصابت البدن لم يزلها إلا الغسل . فيقال لهم : إنما اختلفنا لاختلاف حال جرم الخف وبدن الإنسان في كون جرم الخف مستخصفا غير ناشف لما يحصل فيه من الرطوبة إلى نفسه ، وجرم النجاسة سخيف متخلخل ينشف الرطوبة الحاصلة في الخف إلى نفسها ، فإذا حكت لم يبق منها إلا اليسير الذي لا حكم له ، فصار اختلاف أحكامها في الحك والفرك والغسل متعلقا إما بنفس النجاسة لخفتها وإما بما تحله النجاسة في إمكان إزالتها عنه بغير الماء ، كما نقول في السيف إذا أصابه دم فمسحه إنه يجزي لأن جرم السيف لا يقبل النجاسة فينشفها إلى نفسه ، فإذا أزيل ما على ظاهره لم يبق هناك إلا ما لا حكم له .

التالي السابق


الخدمات العلمية