الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          3098 حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عبيد الله أخبرنا نافع عن ابن عمر قال جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين مات أبوه فقال أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه واستغفر له فأعطاه قميصه وقال إذا فرغتم فآذنوني فلما أراد أن يصلي جذبه عمر وقال أليس قد نهى الله أن تصلي على المنافقين فقال أنا بين خيرتين استغفر لهم أو لا تستغفر لهم فصلى عليه فأنزل الله ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فترك الصلاة عليهم قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي ) كان عبد الله بن عبد الله بن أبي هذا من فضلاء الصحابة وشهد بدرا وما بعدها واستشهد في خلافة أبي بكر الصديق ، ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه فجاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستأذنه في قتله ، قال بل أحسن صحبته . أخرجه ابن منده من حديث أبي هريرة بإسناد حسن ، وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام فلذلك التمس من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يحضر عنده ويصلي عليه ، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه ، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة ، قال : أرسل عبد الله بن أبي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما دخل عليه قال أهلكك حب يهود . فقال يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتوبخني ، ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه ، وهذا مرسل مع ثقة رجاله . ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما مرض عبد الله بن أبي جاءه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكلمه ، فقال : قد فهمت ما تقول ، فامنن علي فكفني في قميصك وصل علي ففعل ، وكان عبد الله بن أبي أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته ، فأظهر الرغبة في صلاة النبي ، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله ، إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك ، وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلق بهذه القصة . كذا في الفتح ( فقال أعطني قميصك أكفنه ) إلى قوله : ( فأعطاه قميصه ) هذا مخالف لحديث جابر عند البخاري . قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعدما دفن ، فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه . قال الحافظ : قد جمع بينهما بأن معنى قوله في حديث ابن عمر فأعطاه ، أي أنعم له بذلك ، فأطلق على العدة اسم العطية مجازا لتحقق وقوعها . وكذا قوله في حديث جابر بعدما دفن عبد الله بن أبي ، أي دلي في حفرته . وكان أهل عبد الله بن أبي خشوا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المشقة في حضوره ، فبادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما وصل وجدهم قد دلوه في حفرته ، فأمر بإخراجه إنجازا لوعده في تكفينه في القميص والصلاة عليه . ووجه إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبد الله بن أبي ، مبين في حديث جابر . قال : لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم [ ص: 397 ] يكن عليه ثوب ، فنظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له قميصا فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه . فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه .

                                                                                                          قال ابن عيينة : كانت له عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يد فأحب أن يكافئه ، رواه البخاري ( فآذنوني ) من الإيذان أي أعلموني ( أليس قد نهى الله أن تصلي على المنافقين ) وفي رواية البخاري : فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه .

                                                                                                          قال الحافظ : كذا في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة . وقد استشكل جدا حتى أقدم بعضهم فقال : هذا وهم من بعض رواته ، وعاكسه غيره فزعم أن عمر اطلع على نهي خاص في ذلك .

                                                                                                          وقال القرطبي : لعل ذلك وقع في خاطر عمر ، فيكون من قبيل الإلهام . ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين .

                                                                                                          قال : الثاني- يعني ما قاله القرطبي - أقرب من الأول ; لأنه لم يتقدم النهي عن الصلاة على المنافقين بدليل أنه قال في آخر هذا الحديث : قال فأنزل الله : ولا تصل على أحد منهم والذي يظهر أن في رواية الباب تجوزا بينته الرواية التي في الباب بعده من وجه آخر ، عن عبيد الله بن عمر بلفظ : فقال تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر لهم .

                                                                                                          وروى عبد بن حميد والطبري من طريق الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال : أراد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يصلي على عبد الله بن أبي ، فأخذت بثوبه فقلت : والله ما أمرك الله بهذا ، لقد قال : إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ووقع عند ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ، فقال عمر : أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ قال أين؟ قال : قال : استغفر الآية . وهذا مثل رواية الباب ، فكأن عمر قد فهم من الآية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب ، من أن أو ليست للتخيير بل للتسوية في علم الوصف المذكور ، أي أن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار سواء ، وهو كقوله تعالى : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم [ ص: 398 ] لكن الثانية أصرح . ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصة . وفهم عمر أيضا من قوله " سبعين مرة " أنها للمبالغة ، وأن العدد المعين لا مفهوم له ، بل المراد نفي المغفرة لهم ولو كثر الاستغفار . فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار فأطلقه . وفهم أيضا أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت طلب المغفرة للميت والشفاعة له ، فلذلك استلزم عند النهي عن الاستغفار ترك الصلاة ، فلذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة ، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أبي .

                                                                                                          هذا تقرير ما صدر عن عمر مع ما عرف من شدة صلابته في الدين ، وكثرة بغضه للكفار والمنافقين ، وهو القائل في حق حاطب بن أبي بلتعة مع ما كان له من الفضل كشهوده بدرا وغير ذلك ، لكونه كاتب قريشا قبل الفتح : دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق . فلذلك أقدم على كلامه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما قال ، ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره لما غلب عليه من الصلابة المذكورة .

                                                                                                          قال الزين بن المنير : وإنما قال ذلك عمر حرصا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومشورة لا إلزاما ، وله عوائد بذلك .

                                                                                                          تنبيه : قال الخطابي : إنما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع عبد الله بن أبي ما فعل ، لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح ، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم ، فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح ، لكان سبة على ابنه وعارا على قومه ، واستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهي فانتهى .

                                                                                                          وقد أخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة في هذه القصة قال : فأنزل الله تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره قال فذكر لنا أن نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : وما يغني عنه قميصي من الله ، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه ( أنا بين خيرتين ) تثنية خيرة كعنبة ، أي أنا مخير بين الاستغفار وتركه ( فأنزل الله ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره لدفن أو زيارة ، أي لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم : قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وناب عنه فيه ، وتمام الآية : إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون وهذا تعليل لسبب المنع من الصلاة عليه والقيام على قبره .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه .




                                                                                                          الخدمات العلمية