الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب قوله عز وجل ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه الآية لا توجل لا تخف وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى الآية

                                                                                                                                                                                                        3192 حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب قوله : ( ونبئهم عن ضيف إبراهيم ) الآية . لا توجل : لا تخف ) كذا اقتصر في هذا الباب على تفسير هذه الكلمة ، وبذلك جزم الإسماعيلي وقال : ساق الآيتين بلا حديث انتهى . والتفسير المذكور مروي عن عكرمة عند ابن أبي حاتم ، ولعله كان عقب هذا في الأصل بياض فحذف . وقصة أضياف إبراهيم أوردها ابن أبي حاتم من طريق السدي مبينة ، وفيها أنه لما قرب إليهم العجل قالوا : إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن ، قال إبراهيم : إن له ثمنا . قالوا : وما ثمنه ؟ قال : تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره ، قال فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال : حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا . فلما رأى أنهم لا يأكلون فزع منهم . ومن طريق عثمان بن محصن قال " كانوا أربعة : جبريل وميكائيل وإسرافيل ورفاييل " ومن طريق نوح بن أبي شداد " أن جبريل مسح بجناحيه العجل فقام يدرج حتى لحق بأمه في الدار " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ) . كذا وقع هذا الكلام لأبي ذر متصلا بالباب ، ووقع في رواية كريمة بدل قوله : ولكن ليطمئن قلبي وحكى الإسماعيلي أنه وقع عنده " باب قوله وإذ قال إبراهيم إلخ " وسقط كل ذلك للنسفي فصار حديث أبي هريرة تكملة الباب الذي قبله ، فكملت به الأحاديث عشرين حديثا ، وهو متجه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب ) في رواية الطبري من طريق عمرو بن الحارث عن يونس عن الزهري " أخبرني أبو سلمة وسعيد " كذا قال يونس بن يزيد عن الزهري ، ورواه مالك عن الزهري فقال " إن سعيد بن المسيب وأبا عبيدة أخبراه عن أبي هريرة " وسيأتي ذلك للمصنف قريبا ، وتابع مالكا أبو أويس عن الزهري أخرجه أبو عوانة من طريقه ، ورجح ذلك عند النسائي فاقتصر عليه ، [ ص: 474 ] وكأن البخاري جنح إلى تصحيح الطريقين فأخرجهما معا ، وهو نظر صحيح ، لأن الزهري صاحب حديث ، وهو معروف بالرواية عن هؤلاء فلعله سمعه منهم جميعا ، ثم هو من الأحاديث التي حدث بها مالك خارج الموطإ واشتهر أن جويرية تفرد به عنه ، ولكن تابعه سعيد بن داود عن مالك أخرجه الدارقطني في غرائب من طريقه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) سقط لفظ الشك من بعض الروايات . واختلف السلف في المراد بالشك هنا ، فحمله بعضهم على ظاهره وقال : كان ذلك قبل النبوة ، وحمله أيضا الطبري على ظاهره وجعل سببه حصول وسوسة الشيطان ، لكنها لم تستقر ولا زلزلت الإيمان الثابت ، واستند في ذلك إلى ما أخرجه هو وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم من طريق عبد العزيز الماجشون عن محمد بن المنكدر عن ابن عباس قال : أرجى آية في القرآن هذه الآية وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى الآية ، قال ابن عباس : هذا لما يعرض في الصدور ويوسوس به الشيطان ، فرضي الله من إبراهيم عليه السلام بأن قال : بلى . ومن طريق معمر عن قتادة عن ابن عباس نحوه ، ومن طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس نحوه ، وهذه طرق يشد بعضها بعضا وإلى ذلك جنح عطاء فروى ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج " سألت عطاء عن هذه الآية قال : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال ذلك " وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال " ذكر لنا أن إبراهيم أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع " ومن طريق حجاج عن ابن جريج قال " بلغني أن إبراهيم أتى على جيفة حمار عليه السباع والطير فعجب وقال : رب لقد علمت لتجمعنها ، ولكن رب أرني كيف تحيي الموتى " وذهب آخرون إلى تأويل ذلك ، فروى الطبري وابن أبي حاتم من طريق السدي قال " لما اتخذ الله إبراهيم خليلا استأذنه ملك الموت أن يبشره فأذن له " فذكر قصة معه في كيفية قبض روح الكافر والمؤمن ، قال " فقام إبراهيم يدعو ربه : رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلم أني خليلك " وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي العوام عن أبي سعيد قال " ليطمئن قلبي بالخلة " ومن طريق قيس بن مسلم عن سعيد بن جبير قال : ليطمئن قلبي أني خليلك " ومن طريق الضحاك عن ابن عباس " لأعلم أنك أجبت دعائي " . ومن طريق علي بن أبي طلحة عنه " لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك " . وإلى هذا الأخير جنح القاضي أبو بكر الباقلاني ، وحكى ابن التين عن الداودي الشارح أنه قال : طلب إبراهيم ذلك لتذهب عنه شدة الخوف ، قال ابن التين : وليس ذلك بالبين ; وقيل كان سبب ذلك أن نمرود لما قال له ما ربك ؟ قال ربي الذي يحيي ويميت ، فذكر ما قص الله مما جرى بينهما ، فسأل إبراهيم بعد ذلك ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى من غير شك منه في القدرة ، ولكن أحب ذلك واشتاق إليه فأراد أن يطمئن قلبه بحصول ما أراده ، أخرجه الطبري عن ابن إسحاق . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة قال : المراد ليطمئن قلبي أنهم يعلمون أنك تحيي الموتى . وقيل معناه أقدرني على إحياء الموتى فتأدب في السؤال . وقال ابن الحصار : إنما سأل أن يحيي الله الموتى على يديه فلهذا قيل له في الجواب فصرهن إليك . وحكى ابن التين عن بعض من لا تحصيل عنده أنه أراد بقوله : ( قلبي ) رجلا صالحا كان يصحبه سأله عن ذلك ، وأبعد منه ما حكاه القرطبي المفسر عن بعض الصوفية أنه سأل من ربه [ ص: 475 ] أن يريه كيف يحيي القلوب ، وقيل أراد طمأنينة النفس بكثرة الأدلة ، وقيل محبة المراجعة في السؤال . ثم اختلفوا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم نحن أحق بالشك فقال بعضهم : معناه نحن أشد اشتياقا إلى رؤية ذلك من إبراهيم ، وقيل معناه إذا لم نشك نحن فإبراهيم أولى أن لا يشك ، أي لو كان الشك متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به منهم ، وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أنه لم يشك . وإنما قال ذلك تواضعا منه ، أو من قبل أن يعلمه الله بأنه أفضل من إبراهيم ، وهو كقوله في حديث أنس عند مسلم " أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا خير البرية ، قال ذاك إبراهيم " وقيل : إن سبب هذا الحديث أن الآية لما نزلت قال بعض الناس : شك إبراهيم ولم يشك نبينا فبلغه ذلك فقال : نحن أحق بالشك من إبراهيم وأراد ما جرت به العادة في المخاطبة لمن أراد أن يدفع عن آخر شيئا قال : مهما أردت أن تقوله لفلان فقله لي ، ومقصوده لا تقل ذلك . وقيل : أراد بقوله نحن أمته الذين يجوز عليهم الشك وإخراجه هو منه بدلالة العصمة . وقيل : معناه هذا الذي ترون أنه شك أنا أولى به لأنه ليس بشك إنما هو طلب لمزيد البيان . وحكى بعض علماء العربية أن أفعل ربما جاءت لنفي المعنى عن الشيئين نحو قوله تعالى أهم خير أم قوم تبع أي لا خير في الفريقين ، ونحو قول القائل : الشيطان خير من فلان أي لا خير فيهما ، فعلى هذا فمعنى قوله نحن أحق بالشك من إبراهيم لا شك عندنا جميعا . وقال ابن عطية : ترجم الطبري في تفسيره فقال : وقال آخرون شك إبراهيم في القدرة . وذكر أثر ابن عباس وعطاء ، قال ابن عطية : ومحمل قول ابن عباس عندي " أنها أرجى آية " لما فيها من الإدلال على الله وسؤال الإحياء في الدنيا ، أو لأن الإيمان يكفي فيه الإجمال ولا يحتاج إلى تنقير وبحث . قال : ومحمل قول عطاء " دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس " أي من طلب المعاينة . قال وأما الحديث فمبني على نفي الشك ، والمراد بالشك فيه الخواطر التي لا تثبت ، وأما الشك المصطلح وهو التوقف بين الأمرين من غير مزية لأحدهما على الآخر فهو منفي عن الخليل قطعا لأنه يبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه فكيف بمن بلغ رتبة النبوة . قال : وأيضا فإن السؤال لما وقع بكيف دل على حال شيء موجود مقرر عند السائل والمسئول ، كما تقول كيف علم فلان ؟ فكيف في الآية سؤال عن هيئة الإحياء لا عن نفس الإحياء فإنه ثابت مقرر . وقال ابن الجوزي : إنما صار أحق من إبراهيم لما عانى من تكذيب قومه وردهم عليه وتعجبهم من أمر البعث فقال : أنا أحق أن أسأل ما سأل إبراهيم لعظيم ما جرى لي مع قومي المنكرين لإحياء الموتى ولمعرفتي بتفضيل الله لي ، ولكن لا أسأل في ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال أولم تؤمن ) الاستفهام للتقرير ، ووجهه أنه طلب الكيفية وهو مشعر بالتصديق بالإحياء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بلى ولكن ليطمئن قلبي ) أي ليزيد سكونا بالمشاهدة المنضمة إلى اعتقاد القلب ، لأن تظاهر الأدلة أسكن للقلوب ، وكأنه قال أنا مصدق ، ولكن للعيان لطيف معنى . وقال عياض : لم يشك إبراهيم بأن الله يحيي الموتى ، ولكن أراد طمأنينة القلب وترك المنازعة لمشاهدة الإحياء فحصل له العلم الأول بوقوعه ، وأراد العلم الثاني بكيفيته ومشاهدته ، ويحتمل أنه سأل زيادة اليقين وإن لم يكن في الأول شك لأن العلوم قد تتفاوت في قوتها فأراد الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ويرحم الله لوطا إلخ ) يأتي الكلام عليه قريبا في ترجمة لوط .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 476 ] قوله : ( ولو لبثت في السجن طول ما لبث ، يوسف لأجبت الداعي ) أي أسرعت الإجابة في الخروج من السجن ولما قدمت طلب البراءة ، فوصفه بشدة الصبر حيث لم يبادر بالخروج وإنما قاله صلى الله عليه وسلم تواضعا ، والتواضع لا يحط مرتبة الكبير بل يزيده رفعة وجلالا ، وقيل هو من جنس قوله لا تفضلوني على يونس وقد قيل إنه قاله قبل أن يعلم أنه أفضل من الجميع ، وسيأتي تكملة لهذا الحديث في قصة يوسف .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية