الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ القسم الثاني ]

القول في الأحكام

وهذه الأحكام منها لفظية ، ومنها حسابية ، ومنها حكمية .

فمن مسائلهم المشهورة الحكمية ، اختلافهم في حكم من أوصى بثلث ماله لرجل وعين ما أوصى له به في ماله مما هو الثلث ، فقال الورثة : ذلك الذي عين أكثر من الثلث ، فقال مالك : الورثة مخيرون بين أن يعطوه ذلك الذي عينه الموصي أو يعطوه الثلث من جميع مال الميت ، وخالفه في ذلك أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد ، وداود .

وعمدتهم أن الوصية قد وجبت للموصى له بموت الموصي وقبوله إياها باتفاق ، فكيف ينقل عن ملكه ما وجب له بغير طيب نفس منه ، وتغير الوصية .

وعمدة مالك إمكان صدق الورثة فيما ادعوه ، وما أحسن ما رأى أبو عمر بن عبد البر في هذه المسألة ، وذلك أنه قال : إذا ادعى الورثة ذلك كلفوا بيان ما ادعوا ، فإن ثبت ذلك أخذ منه الموصى له قدر الثلث من ذلك الشيء الموصى به وكان شريكا للورثة ، وإن كان الثلث فأقل جبروا على إخراجه .

وإذا لم يختلفوا في أن ذلك الشيء الموصى به هو فرق الثلث ، فعند مالك أن الورثة مخيرون بين أن يدفعوا إليه ما وصى له به ، أو يفرجوا له عن جميع ثلث مال الميت ، إما في ذلك الشيء بعينه ، وإما في جميع المال على اختلاف الرواية عن مالك في ذلك ، وقال أبو حنيفة والشافعي : له ثلث تلك العين ويكون بباقيه شريكا للورثة في جميع ما ترك الميت حتى يستوفي تمام الثلث .

وسبب الخلاف أن الميت لما تعدى في أن جعل وصيته في شيء بعينه ، فهل الأعدل في حق الورثة أن يخيروا بين إمضاء الوصية أو يفرجوا له إلى غاية ما يجوز للميت أن يخرج عنهم من ماله أو يبطل التعدي ويعود ذلك الحق مشتركا ، وهذا هو الأولى إذا قلنا : إن التعدي هو في التعيين لكونه أكثر من الثلث ( أعني : أن الواجب أن يسقط التعيين ) وإما أن يكلف الورثة أن يمضوا التعيين أو يتخلوا عن جميع الثلث فهو حمل عليهم .

[ ص: 670 ] ومن هذا الباب اختلافهم فيمن وجبت عليه زكاة فمات ولم يوص بها وإذا وصى بها فهل هي من الثلث ، أو من رأس المال ؟ فقال مالك : إذا لم يوص بها لم يلزم الورثة إخراجها ، وقال الشافعي : يلزم الورثة إخراجها من رأس المال .

وإذا وصى بها ، فعند مالك يلزم الورثة إخراجها وهي عنده من الثلث ، وهي عند الشافعي في الوجهين من رأس المال شبهها بالدين لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فدين الله أحق أن يقضى " وكذلك الكفارات الواجبة ، والحج الواجب عنده ، ومالك يجعلها من جنس الوصايا بالتوصية بإخراجها بعد الموت ، ولا خلاف أنه لو أخرجها في الحياة أنها من رأس المال ولو كان في السياق .

وكأن مالكا اتهمه هنا على الورثة ( أعني : في توصيته بإخراجها ) ، قال : ولو أجيز هذا لجاز للإنسان أن يؤخر جميع زكاته طول عمره إذا دنا من الموت وصى بها .

فإذا زاحمت الوصايا الزكاة قدمت عند مالك على ما هو أضعف منها; وقال أبو حنيفة : هي وسائر الوصايا سواء ، يريد في المحاصة .

واتفق مالك وجميع أصحابه على أن الوصايا التي يضيق عنها الثلث إذا كانت مستوية أنها تتحاص في الثلث ، وإذا كان بعضها أهم من بعض قدم الأهم . واختلفوا في الترتيب على ما هو مسطور في كتبهم .

ومن مسائلهم الحسابية المشهورة في هذا الباب ، إذا أوصى لرجل بنصف ماله ولآخر بثلثيه ورد للورثة الزائد ، فعند مالك والشافعي أنهما يقتسمان الثلث بينهما أخماسا ، وقال أبو حنيفة : بل يقتسمان الثلث بالسوية .

وسبب الخلاف هل الزائد على الثلث الساقط هل يسقط الاعتبار به في القسمة كما يسقط في نفسه بإسقاط الورثة ؟ فمن قال يبطل في نفسه ولا يبطل الاعتبار به في القسمة إذا كان مشاعا قال : يقتسمون المال أخماسا ، ومن قال يبطل الاعتبار به كما لو كان معينا قال : يقتسمون الباقي على السواء .

ومن مسائلهم اللفظية في هذا الباب ، إذا أوصى بجزء من ماله وله مال يعلم به ومال لا يعلم به ، فعند مالك أن الوصية تكون فيما علم به دون ما لم يعلم ، وعند الشافعي تكون في المالين .

وسبب الخلاف هل اسم المال الذي نطق به يتضمن ما علم وما لم يعلم ، أو ما علم فقط ؟ والمشهور عن مالك أن المدبر يكون في المالين إذا لم يخرج من المال الذي يعلم .

وفي هذا الباب فروع كثيرة وكلها راجعة إلى هذه الثلاثة الأجناس ، ولا خلاف بينهم أن للرجل أن يوصي بعد موته بأولاده وأن هذه خلافة جزئية كالخلافة العظمى الكلية التي للإمام أن يوصي بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية