الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في ديات الأعضاء

والأصل فيما فيه من الأعضاء إذا قطع خطأ مال محدود ، ( وهو الذي يسمى دية ، وكذلك من الجراحات والنفوس ) حديث عمرو بن حزم عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم في العقول : " إن في النفس مائة من الإبل ، وفي الأنف إذا استوعب جدعا مائة من الإبل ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الجائفة مثلها وفي العين خمسون ، وفي اليد خمسون ، وفي الرجل خمسون ، وفي كل أصبع مما هناك عشر من الإبل ، وفي السن والموضحة خمس " وكل هذا مجمع عليه إلا السن والإبهام ، فإنهم اختلفوا فيها على ما سنذكره ، ومنها ما اتفقوا عليه مما لم يذكر هاهنا قياسا على ما نذكر ، فنقول :

إن العلماء أجمعوا على أن في الشفتين الدية كاملة ، والجمهور على أن في كل واحدة منهما نصف الدية ، وروي عن قوم من التابعين أن في السفلى ثلثي الدية ; لأنها تحبس الطعام والشراب ، وبالجملة فإن حركتها والمنفعة بها أعظم من حركة الشفة العليا ، وهو مذهب زيد بن ثابت .

وبالجملة فجماعة العلماء وأئمة الفتوى متفقون على أن في كل زوج من الإنسان الدية ما خلا الحاجبين وثديي الرجل .

واختلفوا في الأذنين متى تكون فيهما الدية ؟ فقال الشافعي وأبو حنيفة ، والثوري ، والليث : إذا اصطلمتا كان فيهما الدية ، ولم يشترطوا إذهاب السمع ، بل جعلوا في ذهاب السمع الدية مفردة . وأما مالك فالمشهور عنده أنه لا تجب في الأذنين الدية إلا إذا ذهب سمعهما ، فإن لم يذهب ففيه حكومة . وروي عن أبي بكر أنه قضى في الأذنين بخمس عشرة من الإبل وقال : إنهما لا يضران السمع ويسترهما الشعر أو العمامة . وروي عن عمر ، وعلي ، وزيد أنهم قضوا في الأذن إذا اصطلمت نصف الدية . وأما الجمهور من العلماء فلا خلاف عندهم أن في ذهاب السمع الدية .

وأما الحاجبان ففيهما عند مالك والشافعي حكومة ، وقال أبو حنيفة : فيهما الدية ، وكذلك في أشفار العين ، وليس عند مالك في ذلك إلا حكومة . وعمدة الحنفية ما روي عن ابن مسعود أنه قال : في كل اثنين من الإنسان الدية وتشبيههما بما أجمعوا عليه من الأعضاء المثناة . وعمدة مالك أنه لا مجال فيه للقياس وإنما طريقه التوقيف ، فما لم يثبت من قبل السماع فيه دية فالأصل أن فيه حكومة ، وأيضا فإن [ ص: 738 ] الحواجب ليست أعضاء لها منفعة ولا فعل بين ( أعني : ضروريا في الخلقة ) . وأما الأجفان فقيل في كل جفن منها ربع الدية ، وبه قال الشافعي والكوفي ; لأنه لا بقاء للعين دون الأجفان ، وفي الجفنين الأسفلين عند غيرهما الثلث وفي الأعليين الثلثان . وأجمعوا على أن من أصيب من أطرافه أكثر من ديته أن له ذلك ، مثل أن تصاب عيناه وأنفه فله ديتان .

وأما الأنثيان فأجمعوا أيضا على أن فيهما الدية ، وقال جميعهم : إن في كل واحدة منهما نصف الدية ، إلا ما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال : في البيضة اليسرى ثلثا الدية لأن الولد يكون منها وفي اليمنى ثلث الدية ، فهذه مسائل الأعضاء المزدوجة .

وأما المفردة فإن جمهورهم على أن في اللسان خطأ الدية ، وذلك مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك إذا قطع كله أو قطع منه ما يمنع الكلام ، فإن لم يقطع منه ما منع الكلام ففيه حكومة . واختلفوا في القصاص فيه عمدا ; فمنهم من لم ير فيه قصاصا وأوجب الدية ، وهم مالك ، والشافعي ، والكوفي ، لكن الشافعي يرى الدية في مال الجاني ، والكوفي ومالك على العاقلة ، وقال الليث وغيره : في اللسان عمدا القصاص .

وأما الأنف فأجمعوا على أنه إذا أوعب جدعا على أن فيه الدية على ما في الحديث وسواء عند مالك ذهب الشم أو لم يذهب ، وعنده أنه إذا ذهب أحدهما ففيه الدية ، وفي ذهاب أحدهما بعد الآخر الدية الكاملة .

وأجمعوا على أن في الذكر الصحيح الذي يكون به الوطء الدية كاملة . واختلفوا في ذكر العنين والخصي ، كما اختلفوا في لسان الأخرس وفي اليد الشلاء ، فمنهم من جعل فيها الدية ، ومنهم من جعل فيها حكومة ، ومنهم من قال : في ذكر الخصي والعنين ثلث الدية ، والذي عليه الجمهور أن فيه حكومة . وأقل ما تجب فيه الدية عند مالك قطع الحشفة ، ثم في باقي الذكر حكومة .

وأما عين الأعور فللعلماء فيه قولان أحدهما أن فيه الدية كاملة ، وإليه ذهب مالك وجماعة من أهل المدينة ، وبه قال الليث ، وقضى به عمر بن عبد العزيز وهو قول ابن عمر ، وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري : فيها نصف الدية كما في عين الصحيح ، وهو مروي عن جماعة من التابعين .

وعمدة الفريق الأول أن العين الواحدة للأعور بمنزلة العينين جميعا لغير الأعور . وعمدة الفريق الثاني حديث عمرو بن حزم ( أعني : عموم قوله : " وفي العين نصف الدية " ) ، وقياسا أيضا على إجماعهم أنه ليس على من قطع يد من له يد واحدة إلا نصف الدية .

فسبب اختلافهم في هذا معارضة العموم للقياس ، ومعارضة القياس للقياس ومن أحسن ما قيل فيمن ضرب عين رجل فأذهب بعض بصرها ما روي من ذلك عن علي - رضي الله عنه - أنه أمر بالذي أصيب بصره بأن عصبت عينه الصحيحة ، وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى لم يبصرها ، فخط عند أول ذلك خطا في الأرض ، ثم أمر بعينه المصابة فعصبت وفتحت الصحيحة ، وأعطى رجلا البيضة بعينها فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى خفيت عنه ، فخط أيضا عند أول ما خفيت عنه في الأرض خطا ، ثم علم ما بين الخطين من المسافة ، وعلم مقدار ذلك من منتهى رؤية العين الصحيحة ، فأعطاه قدر ذلك من الدية . ويختبر صدقه في مسافة إدراك العين العليلة والصحيحة بأن يختبر ذلك منه مرارا شتى في مواضع [ ص: 739 ] مختلفة ، فإن خرجت مسافة تلك المواضع التي ذكر واحدة علمنا أنه صادق .

واختلف العلماء في الجناية على العين القائمة الشكل التي ذهب بصرها ، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة : فيها حكومة ، وقال زيد بن ثابت : فيها عشر الدية ( مائة دينار ) . وحمل ذلك الشافعي على أنه كان ذلك من زيد تقويما لا توقيتا . وروي عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عباس أنهما قضيا في العين القائمة الشكل واليد الشلاء والسن السوداء في كل واحدة منهما ثلث الدية . وقال مالك : تتم دية السن باسودادها ثم في قلعها بعد اسودادها دية .

واختلف العلماء في الأعور يفقأ عين الصحيح عمدا ، فقال الجمهور : فله القود ، وإن عفا فله الدية ، وقال قوم : كاملة ، وقال قوم : نصفها ، وبه قال الشافعي ، وابن القاسم ، وبكلا القولين قال مالك ، وبالدية كاملة قال المغيرة من أصحابه ، وابن دينار . وقال الكوفيون : ليس للصحيح الذي فقئت عينه إلا القود أو ما اصطلحوا عليه .

وعمدة من رأى جميع الدية عليه إذا عفا عن القود أنه يجب عليه دية ما ترك له وهي العين العوراء ، وهي دية كاملة عند كثير من أهل العلم . ومذهب عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، أن عين الأعور إذا فقئت وجب فيها ألف دينار ; لأنها في حقه في معنى العينين كلتيهما إلا العين الواحدة ، فإذا تركها له وجبت عليه ديتها . وعمدة أولئك البقاء على الأصل ( أعني : أن في العين الواحدة نصف الدية ) .

وعمدة أبي حنيفة أن العمد ليس فيه دية محدودة ، وهذه المسألة قد ذكرت في باب القود في الجراح .

وقال جمهور العلماء وأئمة الفتوى ( مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والثوري وغيرهم ) : إن في كل أصبع عشرا من الإبل وإن الأصابع في ذلك سواء وإن في كل أنملة ثلث العشر إلا ماله من الأصابع أنملتان كالإبهام ، ففي أنملته خمس من الإبل .

وعمدتهم في ذلك ما جاء في حديث عمرو بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل " ، وخرج عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في الأصابع بعشر العشر " ، وهو قول علي ، وابن مسعود ، وابن عباس وهي عندهم على أهل الورق بحسب ما يرى واحد واحد منهم في الدية من الورق ، فهي عند من يرى أنها اثنا عشر ألف درهم عشرها ، وعند من يرى أنها عشرة آلاف عشرها . وروي عن السلف المتقدم اختلاف في عقل الأصابع ، فروي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في الإبهام والتي تليها بعقل نصف الدية ، وفي الوسطى بعشر فرائض ، وفي التي تليها بتسع ، وفي الخنصر بست . وروي عن مجاهد أنه قال : في الإبهام خمسة عشر من الإبل ، وفي التي تليها عشر ، وفي الوسطى عشر ، وفي التي تليها ثمان ، وفي الخنصر سبع .

وأما الترقوة والضلع ، ففيهما عند جمهور فقهاء الأمصار حكومة ، وروي عن بعض السلف فيها توقيت . وروي عن مالك أن عمر بن الخطاب قضى في الضرس بجمل ، والضلع بجمل ، وفي الترقوة بجمل . وقال سعيد بن جبير في الترقوة بعيران ، وقال قتادة : أربعة أبعرة .

وعمدة فقهاء الأمصار أن ما لم يثبت فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - توقيت فليس فيه إلا حكومة .

وجمهور فقهاء الأمصار على أن في كل سن من أسنان الفم خمسا من الإبل ، وبه قال : ابن عباس . وروى [ ص: 740 ] مالك عن عمر أنه قضى في الضرس بجمل وذلك فيما لم يكن منها في مقدم الفم . وأما التي في مقدم الفم فلا خلاف أن فيها خمسا من الإبل . وقال سعيد بن المسيب : في الأضراس بعيران . وروي عن عبد الملك بن مروان أن مروان بن الحكم اعترض في ذلك على ابن عباس فقال : أتجعل مقدم الأسنان مثل الأضراس ؟ فقال ابن عباس : لو لم يعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء .

عمدة الجمهور في مثل ذلك ما ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " في السن خمس " وذلك من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، واسم السن ينطلق على التي في مقدم الفم ومؤخره ، وتشبيهها أيضا بالأصابع التي استوت ديتها وإن اختلفت منافعها . وعمدة من خالف بينهما أن الشرع يوجد فيه تفاضل الديات لتفاضل الأعضاء مع أنه يشبه أن يكون من صار إلى ذلك من الصدر الأول إنما صار إليه عن توقيف .

وجميع هذه الأعضاء التي تثبت الدية فيها خطأ فيها القود في قطع ما قطع وقلع ما قلع . واختلفوا في كسر ما كسر منها مثل الساق والذراع هل فيه قود أم لا ؟ فذهب مالك وأصحابه إلى أن القود في كسر جميع العظام إلا الفخذ والصلب ، وقال الشافعي والليث : لا قصاص في عظم من العظام يكسر ، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه استثنى السن . وروي عن ابن عباس أنه لا قصاص في عظم ، وكذلك عن عمر .

قال أبو عمر بن عبد البر : ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقاد في السن المكسورة من حديث أنس ، قال : وقد روي من حديث آخر أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يقد من العظم المقطوع في غير المفصل إلا أنه ليس بالقوي . وروي عن مالك أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أقاد من كسر الفخذ .

التالي السابق


الخدمات العلمية