الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في الواجب

وأما الواجب في هذه الجناية إذا وجدت بالصفات التي ذكرنا ( أعني : الموجودة في السارق وفي الشيء المسروق وفي صفة السرقة ) ، فإنهم اتفقوا على أن الواجب فيه القطع من حيث هي جناية ، والغرم إذا لم يجب القطع .

واختلفوا هل يجمع الغرم مع القطع ؟ فقال قوم : عليه الغرم مع القطع ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، والليث ، وأبو ثور ، وجماعة ، وقال قوم : ليس عليه غرم إذا لم يجد المسروق منه متاعه بعينه ، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة ، والثوري ، وابن أبي ليلى وجماعة ، وفرق مالك وأصحابه ، فقال : إن كان موسرا أتبع السارق بقيمة المسروق ، وإن كان معسرا لم يتبع به إذا أثرى ، واشترط مالك دوام اليسر إلى يوم القطع فيما حكى عنه ابن القاسم .

فعمدة من جمع بين الأمرين أنه اجتمع في السرقة حقان : حق لله ، وحق للآدمي ، فاقتضى كل حق موجبه ، وأيضا فإنهم لما أجمعوا على أخذه منه إذا وجد بعينه لزم إذا لم يوجد بعينه عنده أن يكون في ضمانه قياسا على سائر الأموال الواجبة .

وعمدة الكوفيين حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد " ، وهذا الحديث مضعف عند أهل الحديث . قال أبو عمر : لأنه عندهم مقطوع ، قال : وقد وصله بعضهم ، وخرجه النسائي . والكوفيون يقولون : إن اجتماع حقين في حق واحد مخالف للأصول ، ويقولون إن القطع هو بدل من الغرم ، ومن هنا يرون أنه إذا سرق شيئا ما فقطع فيه ثم سرقه ثانيا أنه لا يقطع فيه . وأما تفرقة مالك فاستحسان على غير قياس .

[ ص: 762 ] وأما القطع فالنظر في محله وفيمن سرق وقد عدم المحل .

أما محل القطع فهو اليد اليمنى باتفاق من الكوع ، وهو الذي عليه الجمهور ، وقال قوم : الأصابع فقط . فأما إذا سرق من قد قطعت يده اليمنى في السرقة ، فإنهم اختلفوا في ذلك فقال أهل الحجاز والعراق : تقطع رجله اليسرى بعد اليد اليمنى ، وقال بعض أهل الظاهر وبعض التابعين : تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى ، ولا يقطع منه غير ذلك .

واختلف مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة بعد اتفاقهم على قطع الرجل اليسرى بعد اليد اليمنى ، هل يقف القطع إن سرق ثالثة أم لا ؟ فقال سفيان وأبو حنيفة : يقف القطع في الرجل ، وإنما عليه في الثالثة الغرم فقط ، وقال مالك والشافعي : إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى ، ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى ، وكلا القولين مروي عن عمر ، وأبي بكر ( أعني : قول مالك وأبي حنيفة ) .

فعمدة من لم ير إلا قطع اليد قوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ولم يذكر الأرجل إلا في المحاربين فقط .

وعمدة من قطع الرجل بعد اليد ما روي : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بعبد سرق فقطع يده اليمنى ، ثم الثانية فقطع رجله ، ثم أتى به في الثالثة فقطع يده اليسرى ، ثم أتي به في الرابعة فقطع رجله " ، وروي هذا من حديث جابر بن عبد الله ، وفيه " ثم أخذه الخامسة فقتله " ، إلا أنه منكر عند أهل الحديث ، ويرده قوله - عليه الصلاة والسلام - : " هن فواحش وفيهن عقوبة " ، ولم يذكر قتلا . وحديث ابن عباس : " أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قطع الرجل بعد اليد " ، وعند مالك أنه يؤدب في الخامسة .

فإذا ذهب محل القطع من غير سرقة بأن كانت اليد شلاء ، فقيل في المذهب : ينتقل القطع إلى اليد اليسرى ، وقيل : إلى الرجل .

واختلف في موضع القطع من القدم ، فقيل : يقطع من المفصل الذي في أصل الساق ، وقيل : يدخل الكعبان في القطع ، وقيل : لا يدخلان ، وقيل : إنها تقطع من المفصل الذي في وسط القدم .

واتفقوا على أن لصاحب السرقة أن يعفو عن السارق ما لم يرفع ذلك إلى الإمام لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " تعافوا الحدود بينكم فما بلغني من حد فقد وجب " ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " لو كانت فاطمة بنت محمد لأقمت عليها الحد " ، وقوله لصفوان : " هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به ؟ " .

واختلفوا في السارق يسرق ما يجب فيه القطع فيرفع إلى الإمام وقد وهبه صاحب السرقة ما سرقه ، أو يهبه له بعد الرفع وقبل القطع ، فقال مالك ، والشافعي : عليه الحد; لأنه قد رفع إلى الإمام ، وقال أبو حنيفة وطائفة : لا حد عليه .

فعمدة الجمهور حديث مالك عن ابن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية أنه قيل له : " إن من لم يهاجر هلك ، فقدم صفوان بن أمية إلى المدينة ، فنام في المسجد وتوسد رداءه فجاء سارق فأخذ رداءه ، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تقطع يده ، فقال صفوان : لم أرد هذا يا رسول الله هو عليه صدقة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فهلا قبل أن تأتيني به " .

التالي السابق


الخدمات العلمية