الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة

                                                                                                                                                                                                        4153 حدثني محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم إذ هم معه في جيش العسرة وهي غزوة تبوك فقلت يا نبي الله إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم فقال والله لا أحملكم على شيء ووافقته وهو غضبان ولا أشعر ورجعت حزينا من منع النبي صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه علي فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أي عبد الله بن قيس فأجبته فقال أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فلما أتيته قال خذ هذين القرينين وهذين القرينين لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد فانطلق بهن إلى أصحابك فقل إن الله أو قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء فاركبوهن فانطلقت إليهم بهن فقلت إن النبي صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء ولكني والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لي والله إنك عندنا لمصدق ولنفعلن ما أحببت فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه إياهم ثم إعطاءهم بعد فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى [ ص: 714 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 714 ] قوله : ( باب غزوة تبوك ) هكذا أورد المصنف هذه الترجمة بعد حجة الوداع ، وهو خطأ وما أظن ذلك إلا من النساخ ، فإن غزوة تبوك كانت في شهر رجب من سنة تسع قبل حجة الوداع بلا خلاف ، وعند ابن عائذ من حديث ابن عباس أنها كانت بعد الطائف بستة أشهر ، وليس مخالفا لقول من قال في رجب إذا حذفنا الكسور ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد دخل المدينة من رجوعه من الطائف في ذي الحجة . وتبوك مكان معروف هو نصف طريق المدينة إلى دمشق ، ويقال بين المدينة وبينه أربع عشرة مرحلة . وذكرها في " المحكم " في الثلاثي الصحيح ، وكلام ابن قتيبة يقتضي أنها من المعتل فإنه قال : جاءها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يبكون مكان مائها بقدح فقال : ما زلتم تبوكونها ، فسميت حينئذ تبوك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وهي غزوة العسرة ) وفي أول أحاديث الباب قول أبي موسى " في جيش العسرة " بمهملتين الأولى مضمومة وبعدها سكون مأخوذ من قوله تعالى : الذين اتبعوه في ساعة العسرة وهي غزوة تبوك . وفي حديث ابن عباس " قيل لعمر : حدثنا عن شأن ساعة العسرة ، قال : خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فأصابنا عطش " الحديث ، أخرجه ابن خزيمة . وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن ابن عقيل قال : " خرجوا في قلة من الظهر وفي حر شديد حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء ، فكان ذلك عسرة من الماء وفي الظهر وفي النفقة ، فسميت غزوة العسرة " . وتبوك المشهور فيها عدم الصرف للتأنيث والعلمية ، ومن صرفها أراد الموضع . ووقعت تسميتها بذلك في الأحاديث الصحيحة : منها حديث مسلم " إنكم ستأتون غدا عين تبوك " وكذا أخرجه أحمد والبزار من حديث حذيفة ، وقيل : سميت بذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - للرجلين اللذين سبقاه إلى العين : " ما زلتما تبوكانها منذ اليوم " ، قال ابن قتيبة : فبذلك سميت عين تبوك ; والبوك كالحفر انتهى ، والحديث المذكور عند مالك ومسلم بغير هذا اللفظ ، أخرجاه من حديث معاذ بن جبل أنهم خرجوا في عام تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك ، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا . فجئناها وقد سبق إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء فذكر الحديث في غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهه ويديه بشيء من مائها ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس ، وبينها وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة ، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة ، وكان السبب فيها ما ذكره ابن سعد وشيخه وغيره قالوا : بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت [ ص: 715 ] جموعا ، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب ، وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء ، فندب النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى الخروج ، وأعلمهم بجهة غزوهم كما سيأتي في الكلام على حديث كعب بن مالك . وروى الطبراني من حديث عمران بن حصين قال : " كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل : إن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم ، فبعث رجلا من عظمائهم يقال له : قباذ وجهز معه أربعين ألفا ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ولم يكن للناس قوة ، وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام فقال : يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ، ومائتا أوقية ، قال : فسمعته يقول : لا يضر عثمان ما عمل بعدها " وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن حيان نحوه ، وذكر أبو سعيد في " شرف المصطفى " والبيهقي في " الدلائل " من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم " أن اليهود قالوا . يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء ، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام ، فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى الآيات من سورة بني إسرائيل وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها الآية " انتهى ، وإسناده حسن مع كونه مرسلا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أسأله الحملان لهم ) بضم الحاء المهملة ، أي الشيء الذي يركبون عليه ويحملهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لا أجد ما أحملكم عليه ) في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب " وجاء نفر كلهم معسر يستحملونه لا يحبون التخلف عنه ، فقال : لا أجد . قال : ومن هؤلاء نفر من الأنصار ومن بني مزينة " وفي مغازي ابن إسحاق أن البكائين سبعة نفر [1] : سالم بن عمير ، وأبو ليلى بن كعب ، وعمرو بن الحمام ، وعبد الله بن مغفل وقيل ابن غنمة ، وعلية بن زيد ، وهرمي بن عبد الله ، وعرباض بن سارية ، وسلمة بن صخر . قال : فبلغني أن أبا ياسر اليهودي وقيل : ابن يامين - جهز أبا ليلى وابن مغفل ، وقيل : كان في البكائين بنو مقرن السبعة معقل وإخوته .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( خذ هذين القرينين ) أي الجملين المشدودين ، أحدهما إلى الآخر ، وقيل : النظيرين المتساويين ، وفي رواية أبي ذر عن المستملي " هاتين القرينتين " أي الناقتين ، وتقدم في قدوم الأشعريين أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر لهم بخمس ذود وقال : هذا بستة أبعرة ، فإما تعددت القصة أو زادهم على الخمس واحدا ، وأما قوله : " هاتين القرينتين وهاتين القرينتين " فيحتمل أن يكون اختصارا من الراوي أو كانت الأولى اثنتين والثانية أربعة ؛ لأن القرين يصدق على الواحد وعلى الأكثر ، وأما الرواية التي فيها " هذين القرينين " فذكر ثم أنث فالأولى على إرادة البعير والثانية على إرادة الاختصاص لا على الوصفية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ابتاعهن ) في رواية الكشميهني " ابتاعهم " وكذا " انطلق بهن " في روايته " بهم " وهو تحريف ، والصواب ما عند الجماعة لأنه جمع ما لا يعقل .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 716 ] قوله : ( حينئذ من سعد ) لم يتعين لي من هو سعد إلى الآن ، إلا أنه يهجس في خاطري أنه سعد بن عبادة ، وفي الحديث استحباب حنث الحالف في يمينه إذا رأى غيرها خيرا منها كما سيأتي البحث في الأيمان والنذور ، وانعقاد اليمين في الغضب ، وسنذكر هناك بقية فوائد حديث أبي موسى إن شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية