الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          فصل

                          الرد على من يقول: الفصاحة للفظ وتلاؤم الحروف

                          49- وهذه شبهة أخرى ضعيفة عسى أن يتعلق بها متعلق ممن يقدم على القول من غير روية : وهي أن يدعي أن لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظي، وتعديل مزاج الحروف حتى لا يتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان كالذي أنشده الجاحظ من قول الشاعر :


                          وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر



                          وقول ابن يسير :


                          لا أذيل الآمال بعدك إني     بعدها بالآمال جد بخيل


                          كم لها موقفا بباب صديق     رجعت من نداه بالتعطيل


                          لم يضرها والحمد لله شيء     وانثنت نحو عزف نفس ذهول



                          قال الجاحظ : فتفقد النصف الأخير من هذا البيت فإنك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض - ويزعم أن الكلام في ذلك على طبقات، فمنه المتناهي في الثقل المفرط فيه كالذي مضى . ومنه ما هو أخف منه كقول أبي تمام :

                          [ ص: 57 ]


                          كريم متى أمدحه أمدحه والورى     جميعا ومهما لمته لمته وحدي



                          أي لا أمدحه بشيء إلا صدقني الناس فيه.

                          ومنه ما يكون فيه بعض الكلفة على اللسان إلا أنه لا يبلغ أن يعاب به صاحبه ويشهر أمره في ذلك ويحفظ عليه - ويزعم أن الكلام إذا سلم من ذلك وصفا من شوبه كان الفصيح المشاد به والمشار إليه . وأن الصفاء أيضا يكون على مراتب يعلو بعضها بعضا، وأن له غاية إذا انتهى إليها كان الإعجاز .

                          50- والذي يبطل هذه الشبهة، - إن ذهب إليها ذاهب - أنا إن قصرنا صفة الفصاحة على كون اللفظ كذلك وجعلناه المراد بها، لزمنا أن نخرج الفصاحة من حيز البلاغة ومن أن تكون نظيرة لها . وإذا فعلنا ذلك لم نخل من أحد أمرين : إما أن نجعله العمدة في المفاضلة بين العبارتين ولا نعرج على غيره، وإما أن نجعله أحد ما نفاضل به، ووجها من الوجوه التي تقتضي تقديم كلام على كلام .

                          [ ص: 59 ]

                          فإن أخذنا بالأول لزمنا أن نقصر الفضيلة عليه حتى لا يكون الإعجاز إلا به وفيه، وفي ذلك ما لا يخفى من الشناعة لأنه يؤدي إلى أن لا يكون للمعاني التي ذكروها في حدود البلاغة : من وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وتصحيح الأقسام، وحسن الترتيب والنظام، والإبداع في طريقة التشبيه والتمثيل، والإجمال ثم التفصيل، ووضع الفصل والوصل موضعهما وتوفية الحذف والتأكيد والتقديم والتأخير شروطهما - مدخل فيما له كان القرآن معجزا حتى يدعى أنه لم يكن معجزا من حيث هو بليغ ولا من حيث هو قول فصل وكلام شريف النظم بديع التأليف، وذلك أنه لا تعلق لشيء من هذه المعاني بتلاؤم الحروف .

                          وإن أخذنا بالثاني وهو أن يكون تلاؤم الحروف وجها من وجوه الفضيلة وداخلا في عداد ما يفاضل به بين كلام وكلام على الجملة لم يكن لهذا الخلاف ضرر علينا لأنه ليس بأكثر من أن نعمد إلى الفصاحة فنخرجها من حيز البلاغة والبيان وأن تكون نظيرة لهما، وفي عداد ما هو شبههما من البراعة والجزالة وأشباه ذلك مما ينبئ عن شرف النظم وعن المزايا التي شرحت لك أمرها، وأعلمتك جنسها أو نجعلها اسما مشتركا يقع تارة لما تقع له تلك وأخرى لما يرجع إلى سلامة اللفظ مما يثقل على اللسان وليس واحد من الأمرين بقادح فيما نحن بصدده.

                          [ ص: 60 ]

                          وإن تعسف متعسف في تلاؤم الحروف فبلغ به أن يكون الأصل في الإعجاز، وأخرج سائر ما ذكروه في أقسام البلاغة من أن يكون له مدخل أو تأثير فيما له كان القرآن معجزا، كان الوجه أن يقال له : إنه يلزمك على قياس قولك، أن تجوز أن يكون هاهنا نظم للألفاظ وترتيب، لا على نسق المعاني ولا على وجه يقصد به الفائدة، ثم يكون مع ذلك معجزا، وكفى به فسادا.

                          51- فإن قال قائل : إني لا أجعل تلاؤم الحروف معجزا حتى يكون اللفظ مع ذلك دالا، وذاك أنه إنما تصعب مراعاة التعادل بين الحروف، إذا احتيج مع ذلك إلى مراعاة المعاني . كما أنه إنما تصعب مراعاة السجع والوزن، ويصعب كذلك التجنيس والترصيع إذا روعي معه المعنى.

                          قيل له : فأنت الآن إن عقلت ما تقول قد خرجت من مسألتك وتركت أن يستحق اللفظ المزية من حيث هو لفظ وجئت تطلب لصعوبة النظم فيما بين المعاني طريقا، وتضع له علة غير ما يعرفه الناس وتدعي أن ترتيب المعاني سهل، وأن تفاضل الناس في ذلك إلى حد، وأن الفضيلة تزداد وتقوى، إذا توخي في حروف الألفاظ التعادل والتلاؤم وهذا منك وهم.

                          وذلك أنا لا نعلم لتعادل الحروف معنى سوى أن تسلم من نحو ما تجده في بيت أبي تمام :

                          [ ص: 58 ]


                          كريم متى أمدحه أمدحه والورى



                          [ ص: 61 ]

                          وبيت ابن يسير :


                          وانثنت نحو عزف نفس ذهول



                          وليس اللفظ السليم من ذلك بمعوز ولا بعزيز الوجود، ولا بالشيء لا يستطيعه إلا الشاعر المفلق والخطيب البليغ، فيستقيم قياسه على السجع والتجنيس ونحو ذلك مما إذا رامه المتكلم صعب عليه تصحيح المعاني وتأدية الأغراض . فقولنا : " أطال الله بقاءك وأدام عزك وأتم نعمته عليك وزاد في إحسانه عندك " لفظ سليم مما يكد اللسان، وليس في حروفه استكراه . وهكذا حال كلام الناس في كتبهم ومحاوراتهم لا تكاد تجد فيه هذا الاستكراه لأنه إنما هو شيء يعرض للشاعر إذا تكلف وتعمل، فأما المرسل نفسه على سجيتها فلا يعرض له ذلك.

                          52- هذا، والمتعلل بمثل ما ذكرت من أنه إنما يكون تلاؤم الحروف معجزا بعد أن يكون اللفظ دالا لأن مراعاة التعادل إنما تصعب إذا احتيج مع ذلك إلى مراعاة المعاني، - إذا تأملت - يذهب إلى شيء ظريف، وهو أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى، وذلك محال، لأن الذي يعرفه العقلاء عكس ذلك، وهو أن يصعب مرام المعنى بسبب اللفظ، فصعوبة ما صعب من السجع هي صعوبة عرضت في المعاني من أجل الألفاظ وذاك أنه صعب [ ص: 62 ] عليك أن توفق بين معاني تلك الألفاظ المسجعة وبين معاني الفصول التي جعلت أردافا لها، فلم تستطع ذلك إلا بعد أن عدلت عن أسلوب إلى أسلوب، أو دخلت في ضرب من المجاز، أو أخذت في نوع من الاتساع، وبعد أن تلطفت على الجملة ضربا من التلطف . وكيف يتصور أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى، وأنت إن أردت الحق لا تطلب اللفظ بحال، وإنما تطلب المعنى، وإذا ظفرت بالمعنى فاللفظ معك وإزاء ناظرك؟ وإنما كان يتصور أن يصعب مرام اللفظ من أجل المعنى، أن لو كنت إذا طلبت المعنى فحصلته احتجت إلى أن تطلب اللفظ على حدة، وذلك محال.

                          هذا وإذا توهم متوهم أنا نحتاج إلى أن نطلب اللفظ وأن من شأن الطلب أن يكون هناك، فإن الذي يتوهم أنه يحتاج إلى طلبه، هو ترتيب الألفاظ في النطق لا محالة . وإذا كان كذلك فينبغي لنا أن نرجع إلى نفوسنا فننظر: هل يتصور أن نرتب معاني أسماء وأفعال وحروف في النفس، ثم يخفى علينا مواقعها في النطق، حتى نحتاج في ذلك إلى فكر وروية؟ وذلك ما لا يشك فيه عاقل إذا هو رجع إلى نفسه.

                          وإذا بطل أن يكون ترتيب اللفظ مطلوبا بحال، ولم يكن المطلوب أبدا إلا ترتيب المعاني، وكان معول هذا المخالف على ذلك، فقد اضمحل كلامه، وبان أنه ليس لمن حام في حديث المزية والإعجاز حول اللفظ، ورام أن يجعله السبب في هذه الفضيلة إلا التسكع في الحيرة والخروج عن فاسد من القول إلى مثله . والله الموفق للصواب.

                          54- فإن قيل : إذا كان اللفظ بمعزل عن المزية التي تنازعنا فيها، وكانت [ ص: 63 ] مقصورة على المعنى، فكيف كانت الفصاحة من صفات اللفظ البتة؟ وكيف امتنع أن يوصف بها المعنى فيقال: : معنى فصيح، وكلام فصيح المعنى؟

                          قيل : إنما اختصت الفصاحة باللفظ وكانت من صفته، من حيث كانت عبارة عن كون اللفظ على وصف إذا كان عليه، دل على المزية التي نحن في حديثها وإذا كانت لكون اللفظ دالا استحال أن يوصف بها المعنى كما يستحيل أن يوصف المعنى بأنه دال مثلا فاعرفه.

                          الرد على المعتزلي القاضي عبد الجبار في مسألة اللفظ

                          55- فإن قيل : فماذا دعا القدماء إلى أن قسموا الفضيلة بين المعنى واللفظ فقالوا : " معنى لطيف ولفظ شريف " وفخموا شأن اللفظ وعظموه حتى تبعهم في ذلك من بعدهم، وحتى قال أهل النظر : " إن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ " . فأطلقوا كما ترى كلاما يوهم كل من يسمعه أن المزية في حاق اللفظ؟

                          [ ص: 64 ]

                          قيل له : لما كانت المعاني إنما تتبين بالألفاظ، وكان لا سبيل للمرتب لها والجامع شملها، إلى أن يعلمك ما صنع في ترتيبها بفكره، إلا بترتيب الألفاظ في نطقه تجوزوا فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ، ثم بالألفاظ بحذف الترتيب . ثم أتبعوا ذلك من الوصف والنعت ما أبان الغرض وكشف عن المراد، كقولهم : " لفظ متمكن " يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئن فيه . " ولفظ قلق ناب " يريدون أنه من أجل أن معناه غير موافق لما يليه، كالحاصل في مكان لا يصلح له، فهو لا يستطيع الطمأنينة فيه إلى سائر ما يجيء في صفة اللفظ، مما يعلم أنه مستعار له من معناه . وأنهم نحلوه إياه بسبب مضمونه ومؤداه .

                          هذا ومن تعلق بهذا وشبهه واعترضه الشك فيه، بعد الذي مضى من الحجج فهو رجل قد أنس بالتقليد، فهو يدعو الشبهة إلى نفسه من هاهنا وثم . ومن كان هذا سبيله، فليس له دواء سوى السكوت عنه وتركه وما يختاره لنفسه من سوء النظر وقلة التدبر.

                          56- قد فرغنا الآن من الكلام على جنس المزية، وأنها من حيز المعاني دون الألفاظ، وأنها ليست لك حيث تسمع بأذنك بل حيث تنظر بقلبك وتستعين بفكرك وتعمل رويتك وتراجع عقلك وتستنجد في الجملة فهمك . وبلغ القول في ذلك أقصاه، وانتهى إلى مداه . وينبغي أن نأخذ الآن في تفصيل أمر المزية، وبيان الجهات التي منها تعرض . وإنه لمرام صعب ومطلب عسير . ولولا أنه على ذلك لما وجدت الناس بين منكر له من أصله [ ص: 65 ] ومتحيل له على غير وجهه، ومعتقد أنه باب لا تقوى عليه العبارة، ولا يملك فيه إلا الإشارة، وأن طريق التعليم إليه مسدود وباب التفهيم دونه مغلق، وأن معانيك فيه معان تأبى أن تبرز من الضمير، وأن تدين للتبيين والتصوير وأن ترى سافرة لا نقاب عليها وبادية لا حجاب دونها، وأن ليس للواصف لها إلا أن يلوح ويشير أو يضرب مثلا ينبئ عن حسن قد عرفه على الجملة وفضيلة قد أحسها من غير أن يتبع ذلك بيانا ويقيم عليه برهانا، ويذكر له علة ويورد فيه حجة، وأنا أنزل لك القول في ذلك وأدرجه شيئا فشيئا، وأستعين بالله تعالى عليه، وأسأله التوفيق.

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية