الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          " الاستعارة " و " الكناية " و " التمثيل " من مقتضيات " النظم "

                          464- فإن قيل : قولك : " إلا النظم " يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز، وذلك ما لا مساغ له .

                          قيل : ليس الأمر كما ظننت، بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز . وذلك لأن هذه المعاني التي هي " الاستعارة " و " الكناية " و " التمثيل " وسائر ضروب " المجاز " من بعدها من مقتضيات " النظم " . وعنه يحدث وبه يكون . لأنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخ فيما بينها حكم من أحكام النحو. فلا يتصور أن يكون هاهنا " فعل " أو " اسم " قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد ألف مع غيره . أفلا ترى أنه إن قدر في " اشتعل " من قوله تعالى : « واشتعل الرأس شيبا » [ سورة مريم :4 ] أن لا يكون " الرأس " فاعلا له ويكون " شيبا " منصوبا عنه على التمييز، لم يتصور أن يكون مستعارا؟ وهكذا السبيل في نظائر " الاستعارة " فاعرف ذلك .

                          خطأ المعتزلة في ظنهم أن المزية في " اللفظ " واضطرابهم في ذلك

                          465- واعلم أن السبب في أن لم يقع النظر منهم موقعه، أنهم [ ص: 394 ] حين قالوا : " نطلب المزية " ظنوا أن موضعها " اللفظ " بناء على أن النظم نظم الألفاظ، وأنه يلحقها دون المعاني - وحين ظنوا أن موضعها ذلك واعتقدوه، وقفوا على اللفظ وجعلوا لا يرمون بأوهامهم إلى شيء سواه . إلا أنهم على ذاك، لم يستطيعوا أن ينطقوا في تصحيح هذا الذي ظنوه بحرف بل لم يتكلموا بشيء إلا كان ذلك نقضا وإبطالا لأن يكون اللفظ من حيث هو لفظ، موضعا للمزية - وإلا رأيتهم قد اعترفوا من حيث لم يدروا بأن ليس للمزية التي طلبوها موضع ومكان تكون فيه، إلا معاني النحو وأحكامه . وذلك أنهم قالوا : إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة ، فقولهم : " بالضم " لا يصح أن يراد به النطق باللفظة بعد اللفظة، من غير اتصال يكون بين معنييهما، لأنه لو جاز أن يكون لمجرد ضم اللفظ إلى اللفظ تأثير في الفصاحة، لكان ينبغي إذا قيل : " ضحك، خرج " أن يحدث في ضم " خرج " إلى " ضحك " فصاحة . وإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون المعنى في ضم الكلمة إلى الكلمة توخي معنى من معاني النحو فيما بينهما .

                          وقولهم : " على طريقة مخصوصة " يوجب ذلك أيضا، وذلك أنه لا يكون للطريقة - إذا أنت أردت مجرد اللفظ – معنى.

                          [ ص: 395 ] وهذا سبيل كل ما قالوه إذا أنت تأملته تراهم في الجميع قد دفعوا إلى جعل المزية في معاني النحو وأحكامه من حيث لم يشعروا، ذلك لأنه أمر ضروري لا يمكن الخروج منه .

                          رد قول عبد الجبار المعتزلي: إن المعاني لا تتزايد، وإنما تتزايد الألفاظ

                          466- ومما تجدهم يعتمدونه ويرجعون إليه قولهم : " إن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ " . وهذا كلام إذا تأملته لم تجد له معنى يصح عليه غير أن تجعل " تزايد الألفاظ " عبارة عن المزايا التي تحدث من توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، لأن التزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ونطق لسان محال .

                          467- ثم إنا نعلم أن المزية المطلوبة في هذا الباب، مزية فيما طريقه الفكر والنظر من غير شبهة . ومحال أن يكون اللفظ له صفة تستنبط بالفكر، ويستعان عليها بالروية . اللهم إلا أن تريد تأليف النغم وليس ذلك مما نحن فيه بسبيل .

                          ومن هاهنا لم يجز، إذا عد الوجوه التي تظهر بها المزية أن يعد فيها الإعراب. وذلك أن العلم بالإعراب مشترك بين العرب كلهم، وليس هو مما يستنبط بالفكر، ويستعان عليه بالروية . فليس أحدهم بأن إعراب الفاعل الرفع أو المفعول النصب، والمضاف إليه الجر، بأعلم من غيره ولا ذاك مما يحتاجون فيه إلى حدة ذهن وقوة خاطر، إنما الذي تقع الحاجة فيه إلى ذلك، [ ص: 396 ] العلم بما يوجب الفاعلية للشيء إذا كان إيجابها من طريق المجاز كقوله تعالى : « فما ربحت تجارتهم » [ سورة البقرة : 16 ] وكقول الفرزدق :


                          سقتها خروق في المسامع



                          وأشباه ذلك مما يجعل الشيء فيه فاعلا على تأويل يدق ومن طريق تلطف . وليس يكون هذا علما بالإعراب، ولكن بالوصف الموجب للإعراب .

                          ومن ثم لا يجوز لنا أن نعتد في شأننا هذا بأن يكون المتكلم قد استعمل من اللغتين في الشيء ما يقال " إنه أفصحهما " أو بأن يكون قد تحفظ مما تخطئ فيه العامة لا بأن يكون قد استعمل الغريب لأن العلم بجميع ذلك لا يعدو أن يكون علما باللغة، وبأنفس الكلم المفردة، وبما طريقه طريق الحفظ، دون ما يستعان عليه بالنظر، ويوصل إليه بإعمال الفكر . ولئن كانت العامة وأشباه العامة لا يكادون يعرفون الفصاحة غير ذلك، فإن من ضعف النحيزة إخطار مثله في الفكر، وإجراءه في الذكر . وأنت تزعم أنك ناظر في دلائل الإعجاز، أترى أن العرب تحدوا أن يختاروا الفتح في الميم من " الشمع " والهاء من " النهر " على الإسكان . وأن يتحفظوا من تخليط العامة في مثل " هذا يسوى ألفا " أو إلى أن يأتوا بالغريب الوحشي في كلام يعارضون به القرآن؟ كيف وأنت تقرأ السورة من السور الطوال فلا [ ص: 397 ] تجد فيها من الغريب شيئا، وتتأمل ما جمعه العلماء في غريب القرآن، فترى الغريب منه إلا في القليل، إنما كان غريبا من أجل استعارة هي فيه، كمثل : « وأشربوا في قلوبهم العجل » [ سورة البقرة : 93 ] ومثل : « خلصوا نجيا » [ سورة يوسف : 80 ] ومثل : « فاصدع بما تؤمر » [ سورة الحجر : 94 ] دون أن تكون اللفظة غريبة في نفسها . إنما ترى ذلك في كلمات معدودة كمثل : « عجل لنا قطنا » [ سورة ص :16 ] و « ذات ألواح ودسر » [ سورة القمر : 13 ] و « جعل ربك تحتك سريا » [ سورة مريم : 24 ].

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية