الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ( واعلم ) أن هذا الاختلاف في تقدير المراتب بالألفات لا تحقيق وراءه ، [ ص: 327 ] بل يرجع إلى أن يكون لفظيا ، وذلك أن المرتبة الدنيا وهي القصر ، إذا زيد عليها أدنى زيادة صارت ثانية ، ثم كذلك حتى تنتهي إلى القصوى ، وهذه الزيادة بعينها إن قدرت بألف أو بنصف ألف هي واحدة ، فالمقدر غير محقق ، والمحقق إنما هو الزيادة ، وهذا مما تحكمه المشافهة ، وتوضحه الحكاية ، ويبينه الاختبار ، ويكشفه الحسن .

                                                          قال الحافظ أبو عمرو الداني - رحمه الله - : وهذا كله جار على طباعهم ومذاهبهم في تفكيك الحروف ، وتلخيص السواكن ، وتحقيق القراءة ، وحدرها ، وليس لواحد منهم مذهب يسرف فيه على غيره إسرافا يخرج عن المتعارف في اللغة والمتعالم في القراءة ، بل ذلك قريب بعضه من بعض ، والمشافهة توضح حقيقة ذلك والحكاية تبين كيفيته .

                                                          ( قلت ) : وربما بالغ الأستاذ على المتعلم في التحقيق والتجويد والمد والتفكيك ؛ ليأتي بالقدر الجائز المقصود ، كما أخبرنا أبو الحسن بن أحمد بن هلال الدقاق بقراءتي عليه بالجامع الأموي ، عن الإمام أبي الفضل إبراهيم بن علي بن فضل الواسطي ، أخبرنا عبد الوهاب بن علي الصوفي ، أخبرنا الحسن بن أحمد العطار الحافظ ، أخبرنا أحمد بن علي الأصبهاني ، أخبرنا أحمد بن الفضل الباطرقاني ، أخبرنا محمد بن جعفر المقري الجرجاني ، حدثنا أبو بكر بن محمد بن نصر الشذائي ، ثنا أبو الحسن بن شنبوذ إملاء ، ثنا محمد بن حيان ، ثنا أبو حمدون ، حدثنا سليم قال : سمعت حمزة يقول : إنما أزيد على الغلام في المد ليأتي بالمعنى ، انتهى . وروينا ، عن حمزة أيضا أن رجلا قرأ عليه ، فجعل يمد ، فقال له حمزة : لا تفعل ، أما علمت أن ما كان فوق البياض فهو برص ، وما كان فوق الجعودة فهو قطط ، وما كان فوق القراءة فليس بقراءة .

                                                          ( قلت ) : فالأول لما لم يوف الحق زاد عليه ليوفيه ( والثاني ) لما زاد على الحق ليهديه ، فلا يكون تفريط ولا إفراط ، ومثل ذلك ما روى الدوري ، عن سليم أنه قال : قال الثوري لحمزة ، وهو يقرئ : يا أبا عمارة ما هذا الهمز والقطع والشدة ؟ فقال : يا أبا عبد الله هذه رياضة للمتعلم ، وها نحن نذكر من نصوص الأئمة ما حضرنا كما وعدنا . فقال أبو الحسن طاهر بن غلبون [ ص: 328 ] في " التذكرة " إن ابن كثير ، وأبا شعيب وقالون ، سوى أبي نشيط ويعقوب - يمدون أحرف المد إذا كن مع الهمزة في كلمة واحدة مدا وسطا ، ويتركون مدها زيادة على ما فيهن من المد واللين إذا لم يكن مع الهمزة في كلمة واحدة . قال : وقرأ الباقون وأبو نشيط ، عن قالون ، والدوري ، عن أبي عمرو بمد حرف المد واللين إذا وقعت قبل الهمز في هذين الضربين مدا واحدا مشبعا غير أنهم يتفاضلون في المد ، فأشبعهم مدا ورش وحمزة ، ثم عاصم دون مدها قليلا ، ثم ابن عامر والكسائي دون مده قليلا ، ثم أبو نشيط عن قالون ، والدوري ، عن أبي عمرو دون مدهما قليلا ، وقال الحافظ أبو عمرو في التيسير : إن ابن كثير وقالون - بخلاف عنه - وأبا شعيب وغيره عن اليزيدي يقصرون حرف المد ، فلا يزيدونه تمكينا على ما فيه من المد الذي لا يوصل إليه إلا به ، ومثل المنفصل ثم قال : والباقون يطولون حرف المد في ذلك زيادة ، وأطولهم مدا في الضربين جميعا ورش وحمزة ، ودونهما عاصم ، ودونه ابن عامر والكسائي ، ودونهما أبو عمرو من طريق أهل العراق ، وقالون من طريق أبي نشيط بخلاف عنه ، وقال في " جامع البيان " : وأشبع القراءة مدا وأزيدهم تمكينا في الضربين جميعا من المتصل والمنفصل حمزة في غير رواية خلاد وأبو بكر في رواية الشموني عن الأعشى ، عنه ، وحفص في رواية الأشناني ، عن أصحابه ، عنه ، قال : ودونهم في الإشباع والتمكين حمزة في رواية خلاد ونافع في رواية ورش من طريق المصريين ، ودونهما عاصم في رواية الشموني عن الأعشى ، وفي غير رواية الأشناني ، عن حفص ، ودونه الكسائي في غير رواية قتيبة وابن عامر ، ودونهما أبو عمرو من طريق ابن مجاهد وسائر البغداديين ، ونافع من رواية أبي نشيط عن قالون . قال : ودونهما ابن كثير ومن تابعه على التميز بين ما كان من كلمة ومن كلمتين ، وقال أبو محمد مكي في التبصرة : إن ابن كثير وأبا عمرو في رواية العراقيين - يعني السوسي والحلواني - عن قالون يقصرون المنفصل ، وأبا نشيط ، عن قالون [ ص: 329 ] وأبا عمرو في رواية العراقيين - يعني الدوري - بالمد مدا متمكنا ، وكذلك ابن عامر ، والكسائي غير أنهما أزيد قليلا ومثلهما عاصم غير أنه أزيد قليلا ، ومثله ورش وحمزة غير أنهما أمكن قليلا . وقال أبو العباس المهدوي في " الهداية " وأطولهم - يعني في المنفصل حمزة وورش ، ثم عاصم ، ثم ابن عامر والكسائي ، ثم أبو نشيط والدوري عن اليزيدي ، ثم الباقون . وقال أبو عبد الله بن شريح في " الكافي " عن المنفصل : فورش وحمزة أطولهم مدا ، وعاصم دونهما ، وابن عامر والكسائي دونه ، وقالون والدوري عن اليزيدي دونهما ، وابن كثير وأبو شعيب أقلهم مدا ، وقد قرأت لقالون والدوري عن اليزيدي كابن كثير وأبي شعيب قال : وإنما يشبع المد في هذه الحروف إذا جاء بعدها همزة ، أو حرف ساكن مدغم ، أو غير مدغم ، وقال أبو علي الأهوازي في " الوجيز " إن ابن كثير وأبا عمرو ، ويعقوب ، وقالون ، وهشاما لا يمدون المنفصل ، وإن أطولهم مدا حمزة وورش ، وإن عاصما ألطف مدا ، وإن الكسائي وابن ذكوان ألطف منه مدا ، قال : فإذا كان حرف المد مع الهمزة في كلمة واحدة أجمعوا على مده زيادة ، ويتفاضلون في ذلك على قدر مذاهبهم في التجويد والتحقيق . انتهى .

                                                          وهذا يقتضي التفاوت أيضا في المتصل كالجماعة ، وقال أبو القاسم بن الفحام في " التجريد " إن حمزة والنقاش ، عن الحلواني ، عن هشام ويونس والأزرق ، عن ورش يمدون الضربين مدا مشبعا تاما ، ويليهم عبد الباقي ، عن عاصم ، والفارسي عن ابن عامر سوى النقاش عن الحلواني ، عن هشام ، ويليهم الكسائي وعبد الباقي عن ابن عامر وأبو نشيط الأصبهاني ، عن ورش وأبو الحسين الفارسي ، يعني من طرق الإظهار ، والباقون وهم ابن كثير والقاضي والحلواني ، عن قالون وأبو عمرو يعني من طرق الإدغام ، ومن طريق عبد الباقي وابن نفيس ، عن أصحابهم عنه مثلهم ، إلا أنهم لا يمدون حرفا لحرف ، وقال أبو معشر الطبري في " التلخيص " : إن حجازيا غير ورش والحلواني ، عن هشام يتركون المد حرفا لحرف ويمكنون [ ص: 330 ] تمكينا . وإن عاصما والكسائي وابن عامر إلا الحلواني يمدون وسطا فوق الأولى قليلا . وإن حمزة وورشا يمدان مدا تاما ، وإن حمزة أطول مدا . انتهى .

                                                          وهو يقتضي عدم القصر المحض ، وقال أبو جعفر بن الباذش في " الإقناع " : وأطول القراء مدا في الضربين ورش وحمزة ، ومدهما متقارب ، قال : ويليهما عاصم ; لأنه كان صاحب مد ، وقطع ، وقراءة شديدة ، ويليه ابن عامر والكسائي ، قال : وعلى ما قرأت به للحلواني ، عن هشام من غير طريق ابن عبدان من ترك مد حرف لحرف يكون ابن عامر دون مد الكسائي ويليهما أبو عمرو من طريقي ابن مجاهد ، عن أبي عمرو ، وقالون من طريق أبي نشيط من غير رواية الفرضي ، ثم قال : وهذا كله على التقريب من غير إفراط ، وقال ابن شيطا : إن ابن كثير يأتي بحرف المد في المنفصل على صيغته من غير زيادة ، وإن مدنيا والحلواني لهشام والحمامي عن الولي ، عن حفص يأتون في ذلك بزيادة متوسطة ، وأبو عمر وله مذهبان أحدهما كابن كثير يخص به الإدغام ، والثاني كنافع ومن تابعه بل أتم منه يخص به الإظهار ، قال : وهو المشهور عنه ، وبه أقرأ ابن مجاهد أصحابه ، عن أبي عمرو ، والباقون بمد مشبع غير فاحش ولا مجاوز للحد ، وأتمهم مدا حمزة ، والأعشى وقتيبة والحمامي ، عن النقاش ، عن الأخفش ، عن ابن ذكوان ، وباقيهم يتقاربون فيه ، وهذا صريح في أنه لا قصر في المنفصل لغير ابن كثير ، وقال الحافظ أبو العلاء في " الغاية " بعد ذكره المنفصل وتمثيله : فقرأ بتمكين ذلك من غير مد حجازي ، والحلواني ، عن هشام ، والولي ، عن حفص وأقصرهم مدا مكي ، ثم قال الباقون بالمد المستوفى في جميع ذلك مع التمكين ، وأطولهم مدا حمزة ، ثم الأعشى ، ثم قتيبة ، قال : وأجمع القراء على إتمام المد وإشباعه ، فيما كان حرف المد والهمزة بعده في كلمة واحدة ، وهذا أيضا صريح في ذلك كما تقدم ، وقال سبط الخياط في " المبهج " بعد ذكره المنفصل ، فكان ابن كثير وابن محيصن يمكنان هذه الحروف تمكينا يسيرا سهلا ، قال : وقال المحققون في ذلك ، بل يقصرانها قصرا محضا ، يعني أنهما ينطقان بأحرف المد [ ص: 331 ] في هذا الفصل على صورتهن في الخط . وكان نافع إلا أبا سليمان وأبا مروان جميعا ، عن قالون وهشام وحفص في رواية عمرو بن الصباح ويعقوب يمدونها مدا متوسطا ، فينفسون مدها تنفيسا .

                                                          قال : وكان لأبي عمرو في مدهن مذهبان : أحدهما القصر على نحو قراءة ابن كثير إذا أدغم المتحركات ، نص على ذلك الشذائي ، وأما المطوعي فما عرفت عنه عن أبي عمرو نصا ، والذي قرأت به على شيخنا الشريف بالمد الحسن كنافع ومتابعيه ، ثم قال : وكان أهل الكوفة إلا الشنبوذي عن الأعمش وعمرو بن الصباح وابن عامر إلا هشاما وأبو سليمان وأبو مروان ، عن قالون يمدون مدا تاما حسنا مشبعا من غير فحش فيه ، وكان أتمهم مدا وأزيدهم فيه حدا وتمطيا حمزة ، ويقاربه قتيبة ويدانيهما ابن عامر غير هشام . ثم قال : واتفقوا على تمكين هذه الحروف التمكين الوافي ، وأن يمد المد الشافي بشرط أن يصحبها معها في الكلمة همزة ، أو مدغم .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية