الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ثم يفتتح الطواف ، وهذا الطواف يسمى طواف اللقاء وطواف التحية ، وطواف أول عهد بالبيت ، وإنه سنة عند عامة العلماء .

                                                                                                                                وقال مالك إنه فرض ، واحتج بظاهر قوله عز وجل { وليطوفوا بالبيت العتيق } أمر بالطواف بالبيت فدل على الوجوب والفرضية ، ولنا أنه لا يجب على أهل مكة بالإجماع ، ولو كان ركنا لوجب عليهم ; لأن الأركان لا تختلف بين أهل مكة وغيرهم ، كطواف الزيارة فلما لم يجب على أهل مكة دل أنه ليس بركن .

                                                                                                                                والمراد من الآية طواف الزيارة لإجماع أهل التفسير ، ولأنه خاطب الكل بالطواف بالبيت ، وطواف الزيارة هو الذي يجب على الكل ، فأما طواف اللقاء فإنه لا يجب على أهل مكة دل على أن المراد هو طواف الزيارة .

                                                                                                                                وكذا سياق الآية دليل عليه ; لأنه أمرنا بذبح الهدايا بقوله عز وجل { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ، وأمر بقضاء التفث ، وهو الحلق ، والطواف بالبيت عقيب ذبح الهدي ; لأن كلمة " ثم " للترتيب مع التعقيب فيقتضي أن يكون الحلق والطواف مرتبين على الذبح ، والذبح يختص بأيام النحر ، لا يجوز قبلها فكذا الحلق ، والطواف ، وهو طواف الزيارة ، فأما طواف اللقاء فإنه يكون سابقا على أيام [ ص: 147 ] النحر فثبت أن المراد من الآية الكريمة طواف الزيارة ، وبه نقول : إنه ركن ، وإذا افتتح الطواف يأخذ عن يمينه مما يلي الباب فيطوف بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأول ، ويمشي على هيئته في الأربعة الباقية ، والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنه استلم الحجر ثم أخذ عن يمينه مما يلي الباب فطاف بالبيت سبعة أشواط } .

                                                                                                                                وأما الرمل فالأصل فيه أن كل طواف بعده سعي فمن سننه الاضطباع والرمل في الثلاثة الأشواط الأول منه ، وكل طواف ليس بعده سعي فلا رمل فيه ، وهذا قول عامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا ما حكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الرمل في الطواف ليس بسنة ، وجه قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمل ، وندب أصحابه إليه لإظهار الجلد للمشركين ، وإبداء القوة لهم من أنفسهم فإنه روي أنه { دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، وكفار قريش قد صفت عند دار الندوة ينظرون إليهم ويستضعفونهم ويقولون : أوهنتهم حمى يثرب فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه ، ورمل ثم قال رحم الله امرأ أبدى من نفسه جلدا } .

                                                                                                                                وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال { رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة } ، وذلك المعنى قد زال فلم يبق الرمل سنة ، لكنا نقول : الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تكاد تصح ; لأنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل بعد فتح مكة وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ، ومشى أربعا } .

                                                                                                                                وكذا أصحابه رضي الله تعالى عنهم بعده رملوا .

                                                                                                                                وكذا المسلمون إلى يومنا هذا فصار الرمل سنة متواترة ، فإما أن يقال : إن أول الرمل كان لذلك السبب ، وهو إظهار الجلادة ، وإبداء القوة للكفرة ، ثم زال ذلك السبب وبقيت سنة الرمل على الأصل المعهود أن بقاء السبب ليس بشرط لبقاء الحكم كالبيع ، والنكاح ، وغيرهما ، وإما أن يقال لما رمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد زوال ذلك السبب صار الرمل سنة مبتدأة فنتبع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وإن كان لا نعقل معناه ، وإلى هذا أشار عمر رضي الله تعالى عنه حين رمل في الطواف ، وقال : ما لي أهز كتفي ، وليس ههنا أحد رأيته ، لكن أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال : لكن أفعل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويرمل من الحجر إلى الحجر ، وهذا قول عامة العلماء .

                                                                                                                                وقال سعيد بن جبير ، وعطاء ، ومجاهد ، وطاوس رضي الله تعالى عنهم لا يرمل بين الركن اليماني ، وبين الحجر الأسود ، وإنما يرمل من الجانب الآخر ، وجه قولهم أن الرمل في الأصل كان لإظهار الجلادة للمشركين ، والمشركون إنما كانوا يطلعون على المسلمين من ذلك الجانب .

                                                                                                                                فإذا صاروا إلى الركن اليماني لم يطلعوا عليهم لصيرورة البيت حائلا بينهم وبين المسلمين ، ولنا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثا من الحجر إلى الحجر ، والجواب عن قولهم أن الرمل كان لإظهار القوة والجلادة ، إن الرمل الأول كان لذلك .

                                                                                                                                وقد زال وبقي حكمه أو صار الرمل بعد ذلك سنة مبتدأة لا لما شرع له الأول بل لمعنى آخر لا نعقله .

                                                                                                                                وأما الاضطباع فلما روينا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرمل مضطبعا بردائه } ، وتفسير الاضطباع بالرداء هو أن يدخل الرداء من تحت إبطه الأيمن ، ويرد طرفه على يساره ، ويبدي منكبه الأيمن ، ويغطي الأيسر ، سمي اضطباعا لما فيه من الضبع ، وهو العضد لما فيه من إبداء الضبعين ، وهما العضدان ، فإن زوحم في الرمل وقف فإذا ، وجد فرجة رمل ; لأنه ممنوع من فعله إلا على وجه السنة فيقف إلى أن يمكنه فعله على وجه السنة ، ويستلم الحجر في كل شوط يفتتح به إن استطاع من غير أن يؤذي أحدا لما روي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كلما مر بالحجر الأسود استلمه } ، ولأن كل شوط طواف على حدة فكان استلام الحجر فيه مسنونا كالشوط الأول ، وإن لم يستطع استقبله وكبر وهلل .

                                                                                                                                وأما الركن اليماني فلم يذكر في الأصل أن استلامه سنة ، ولكنه قال : إن استلمه فحسن ، وإن تركه لم يضره في قول أبي حنيفة رحمه الله ، وهذا يدل على أنه مستحب وليس بسنة ، وقال محمد رحمه الله يستلمه ولا يتركه ، وهذا يدل على أن استلامه سنة ، ولا خلاف في أن تقبيله ليس بسنة .

                                                                                                                                وقال الشافعي يستلمه ، ويقبل يده ، وجه قول محمد ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم هذين الركنين ، ولا يتسلم غيرهما } ، وعن ابن عباس [ ص: 148 ] رضي الله عنهما قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني ، ويضع خده عليه } ، وجه ما ذكر في الأصل وهو أنه مستحب ، وليس بمسنون أنه ليس من السنة تقبيله ، ولو كان مسنونا لسن تقبيله كالحجر الأسود ، وعن جابر رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني ، ولم يقبله } ، وهذا يدل على أنه مستحب وليس بسنة .

                                                                                                                                وأما الركنان الآخران ، وهما العراقي ، والشامي فلا يستلمهما عند عامة الصحابة رضي الله عنهم ، وهو قولنا ، وعن معاوية ، وزيد بن ثابت ، وسويد بن غفلة رضي الله عنهم أنه يستلم الأركان الأربعة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى معاوية ، وسويدا استلما جميع الأركان فقال ابن عباس لمعاوية : إنما يستلم هذين الركنين ، فقال معاوية : ليس شيء من البيت مهجورا ، والصحيح قول العامة ; لأن الاستلام إنما عرف سنة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما استلم غير الركنين لما روينا عن عمر رضي الله عنه أنه قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم هذين الركنين ، ولا يستلم غيرهما } ، ولأن الاستلام لأركان البيت ، والركن الشامي والعراقي ليسا من الأركان حقيقة ; لأن ركن الشيء ناحيته ، وهما في ، وسط البيت ; لأن الحطيم من البيت ، وجعل طوافه من وراء الحطيم ، فلو لم يجعل طوافه من ، ورائه لصار تاركا الطواف ببعض البيت إلا أنه لا يجوز التوجه إليه في الصلاة لما ذكرنا فيما تقدم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية