الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر غزوة تبوك

لما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام بالمدينة بعد عوده من الطائف ما بين ذي الحجة إلى رجب ، ثم أمر الناس بالتجهز لغزو الروم ، وأعلم الناس مقصدهم لبعد الطريق ، وشدة الحر ، وقوة العدو ، وكان قبل ذلك إذا أراد غزوة ورى بغيرها .

وكان سببها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن هرقل ملك الروم ومن عنده من متنصرة العرب - قد عزموا على قصده ، فتجهز هو والمسلمون وساروا إلى الروم . وكان الحر شديدا ، والبلاد مجدبة ، والناس في عسرة ، وكانت الثمار قد طابت ، فأحب الناس المقام في ثمارهم ، فتجهزوا على كره ، فكان ذلك الجيش يسمى جيش العسرة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجد بن قيس ، وكان من رؤساء المنافقين : هل لك في جلاد بني [ ص: 146 ] الأصفر ؟ فقال : والله لقد عرف قومي حبي للنساء ، وأخشى أن لا أصبر على نساء بني الأصفر ، فإن رأيت أن تأذن لي ولا تفتني . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قد أذنت لك ، فأنزل الله - تعالى : ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني الآية ، وقال قائل من المنافقين : لا تنفروا في الحر ، فنزل قوله - تعالى : وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا .

ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تجهز وأمر بالنفقة في سبيل الله ، وأنفق أهل الغنى ، وأنفق أبو بكر جميع ما بقي عنده من ماله ، وأنفق عثمان نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم منها ، قيل : كانت ثلاثمائة بعير وألف دينار .

ثم إن رجالا من المسلمين أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم البكاءون ، وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، وكانوا أهل حاجة ، فاستحملوه . فقال : لا أجد ما أحملكم عليه . فتولوا يبكون ، فلقيهم يامين بن عمير بن كعب النضري ، فسألهم عما يبكيهم فأعلموه ، فأعطى أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب ، وعبد الله بن مغفل المزني بعيرا ، فكانا يعتقبانه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعذرهم الله ، وكان عدة من المسلمين تخلفوا من غير شك ، منهم : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، وأبو خيثمة .

فلما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخلف عنه عبد الله بن أبي المنافق فيمن تبعه من أهل النفاق ، واستخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة سباع بن عرفطة ، وعلى أهله علي بن أبي طالب ، فأرجف به المنافقون وقالوا : ما خلفه إلا استثقالا له . فلما سمع علي ذلك أخذ سلاحه ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ما قال المنافقون ، فقال : كذبوا ، وإنما خلفتك لما ورائي ، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من [ ص: 147 ] موسى ؟ إلا أنه لا نبي بعدي . فرجع ، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

ثم إن أبا خيثمة أقام أياما ، فجاء يوما إلى أهله ، وكانت له امرأتان ، وقد رشت كل امرأة منهما عريشها ، وبردت له ماء ، وصنعت طعاما ، فلما رآه قال : يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحر والريح ، وأبو خيثمة في الظل البارد ، والماء البارد مقيم ! ما هذا بالنصف ، والله ما أحل عريشا منها حتى ألحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فهيأ زاده وخرج إلى ناضحه فركبه ، وطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأدركه بتبوك ، فقال الناس : يا رسول الله ، هذا راكب مقبل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : كن أبا خيثمة . فقالوا : هو والله أبو خيثمة . وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بخبره ، فدعا له .

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين مر بالحجر ، وهو بطريقه ، وهو منزل ثمود ، قال لأصحابه : لا تشربوا من هذا الماء شيئا ، ولا تتوضئوا منه ، وما كان من عجين فألقوه واعلفوه الإبل ، ولا تأكلوا منه شيئا ، ولا يخرج الليلة أحد إلا مع صاحب له . ففعل ذلك الناس ولم يخرج أحد إلا رجلين من بني ساعدة ، خرج أحدهما لحاجة فأصابه جنون ، وأما الذي طلب بعيره فاحتمله الريح إلى جبلي طيئ ، فأخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألم أنهكم أن لا يخرج أحد إلا مع صاحب له ؟ فأما الذي خنق فدعا له فشفي ، وأما الذي حملته الريح فأهدته طيئ إلى رسول الله بعد عوده إلى المدينة . وأصبح الناس بالحجر ولا ماء معهم ، فشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا الله ، فأرسل سحابة فأمطرت حتى روي الناس .

وكان بعض المنافقين يسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء المطر قال له بعض المسلمين : هل بعد هذا الشيء ؟ قال : سحابة مارة .

وضلت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطريق فقال لأصحابه ، وفيهم عمارة بن حزم ، وهو عقبي بدري : إن رجلا قال : إن محمدا يخبركم الخبر من السماء وهو لا يدري أين ناقته ، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله - عز وجل - وهي في الوادي في شعب كذا ، قد حبستها شجرة بزمامها ، فانطلقوا فأتوه بها ، فرجع عمارة إلى أصحابه ، فخبرهم بما قال [ ص: 148 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الناقة تعجبا مما رأى . وكان زيد بن لصيت القينقاعي منافقا ، وهو في رحل عمارة قد قال هذه المقالة ، فأخبر عمارة بأن زيدا قد قالها ، فقام عمارة يطأ عنقه وهو يقول : في رحلي داهية ولا أدري ! اخرج عني يا عدو الله ! فزعم بعض الناس أن زيدا تاب بعد ذلك وحسن إسلامه ، وقيل : لم يزل متهما حتى هلك .

ووقف بأبي ذر جمله فتخلف عليه ، فقيل : يا رسول الله ، تخلف أبو ذر . فقال : ذروه ، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، فكان يقولها لكل من تخلف عنه ، فوقف أبو ذر على جمله ، فلما أبطأ عليه أخذ رحله عنه ، وحمله على ظهره ، وتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - ماشيا . فنظر الناس فقالوا : يا رسول الله ، هذا رجل على الطريق وحده . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : كن أبا ذر . فلما تأمله الناس قالوا : هو أبو ذر . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده . ويبعث وحده ، ويشهده عصابة من المؤمنين .

فلما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة أصابه بها أجله ، ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه ، فأوصاهما أن يغسلاه ويكفناه ، ثم يضعاه على الطريق ، فأول ركب يمر بهما يستعينان بهم على دفنه ، ففعلا ذلك ، فاجتاز بهما عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق ، فأعلمته امرأة أبي ذر بموته . فبكى ابن مسعود وقال : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، ثم واروه .

وانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك ، فأتى يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة ، فصالحه على الجزية ، وكتب له كتابا ، فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار ، ثم زاد فيها الخلفاء من بني أمية . فلما كان عمر بن عبد العزيز لم يأخذ منهم غير ثلاثمائة ، وصالح أهل أذرح على مائة دينار في كل رجب . وصالح أهل جرباء على الجزية ، وصالح أهل مقنا على ربع ثمارهم .

وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة [ ص: 149 ] الجندل ، وكان نصرانيا من كندة ، فقال لخالد : إنك تجده يصيد البقر . فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه على منظر العين ، وأكيدر على سطح داره ، فباتت البقر تحك بقرونها باب الحصن ، فقالت امرأته : هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال : لا والله ، ثم نزل وركب فرسه ومعه نفر من أهل بيته ، ثم خرج يطلب البقر ، فتلقتهم خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذته ، وقتلوا أخاه حسانا ، وأخذ خالد من أكيدر قباء ديباج مخوص بالذهب ، فأرسله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل المسلمون يلمسونه ويتعجبون منه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أتعجبون من هذا ؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا . وقدم خالد بأكيدر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحقن دمه وصالحه على الجزية ، وخلى سبيله .

وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها ، ولم يقدم عليه الروم والعرب المتنصرة ، فعاد إلى المدينة . وكان في الطريق ماء يخرج من وشل لا يروي إلا الراكب والراكبين ، بواد يقال له : وادي المشقق ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من سبقنا فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه . فسبقه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه ، فلما جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبروه بفعلهم ، فلعنهم ودعا عليهم ، ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه فوضع يده تحته ، وجعل يصب إليها يسيرا من الماء ، فدعا فيه ونضحه في الوشل ، فانخرق الماء جريا شديدا ، فشرب الناس واستقوا . وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قارب المدينة ، فأتاه خبر مسجد الضرار ، فأرسل مالك بن الدخشم فحرقه وهدمه ، وأنزل الله فيه : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين الآيات . وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا ، وكان قد أخرج من دار خذام بن خالد من بني عمرو بن عوف .

وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قد تخلف عنه رهط من المنافقين ، فأتوه يحلفون له ويعتذرون ، فصفح عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعذرهم الله ورسوله ، وتخلف أولئك النفر الثلاثة ، وهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، تخلفوا من غير شك ولا نفاق ، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامهم ، فاعتزلهم الناس ، فبقوا كذلك خمسين ليلة ، ثم أنزل الله توبتهم : وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم [ ص: 150 ] الآيات ، إلى قوله : صادقين ، وكان قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة من تبوك في رمضان .

( يامين النضري بالنون ، والضاد المعجمة . وعبد الله بن مغفل بالغين المعجمة ، والفاء المشددة المفتوحة . وزيد بن لصيت باللام المضمومة ، والصاد المهملة المفتوحة ، وآخره تاء مثناة من فوقها . وخذام بن خالد بالخاء المكسورة ، والذال المعجمتين . وأكيدر بالهمزة المضمومة ، والكاف المفتوحة ، والدال المهملة المكسورة ، وآخره راء مهملة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية