الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق ، ثنا محمد بن إسحاق النقلي ، ثنا أبو يونس محمد بن أحمد بن المديني ، ثنا أبو الحارث عثمان بن إبراهيم بن غسان ، ثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير ، عن أبيه ، قال : دخل سليمان بن عبد الملك المدينة حاجا ، فقال : هل بها رجل أدرك عدة من الصحابة ؟ قالوا : نعم أبو حازم ، فأرسل إليه ، فلما أتاه ، قال : يا أبا حازم ما هذا الجفاء ؟ قال : وأي جفاء رأيت مني يا أمير المؤمنين ؟ قال : وجوه الناس أتوني ولم تأتني ، قال : والله ما عرفتني قبل هذا ولا أنا رأيتك فأي جفاء رأيت مني ؟ فالتفت سليمان إلى الزهري ، فقال : أصاب الشيخ وأخطأت أنا ، فقال : يا أبا حازم ما لنا نكره الموت ؟ فقال : عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب ، قال : صدقت ، فقال : يا أبا حازم ليت شعري ما لنا عند الله تعالى غدا ، قال : اعرض عملك على كتاب الله عز وجل ، قال : وأين أجده من كتاب الله تعالى ؟ قال : قال الله تعالى : ( إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ) ، قال سليمان : فأين رحمة الله ؟ قال أبو حازم : قريب من المحسنين ، قال سليمان : ليت شعري كيف العرض على الله غدا ؟ قال أبو حازم : أما المحسن كالغائب يقدم على أهله ، وأما المسيء كالآبق يقدم به على مولاه ، فبكى سليمان حتى علا نحيبه واشتد بكاؤه ، فقال : يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح ؟ قال : تدعون عنكم الصلف وتمسكون بالمروءة وتقسمون بالسوية وتعدلون في القضية ، قال : [ ص: 235 ] يا أبا حازم وكيف المأخذ من ذلك ؟ قال : تأخذه بحقه وتضعه بحقه في أهله ، قال : يا أبا حازم من أفضل الخلائق ؟ قال : أولو المروءة والنهى ، قال : فما أعدل العدل ؟ قال : كلمة صدق عند من ترجوه وتخافه ، قال : فما أسرع الدعاء إجابة ؟ قال : دعاء المحسن للمحسنين ، قال : فما أفضل الصدقة ؟ قال : جهد المقل إلى يد البائس الفقير لا يتبعها من ولا أذى ، قال : يا أبا حازم من أكيس الناس ؟ قال : رجل ظفر بطاعة الله تعالى فعمل بها ، ثم دل الناس عليها ، قال : فمن أحمق الخلق ؟ قال : رجل اغتاظ في هوى أخيه وهو ظالم له فباع آخرته بدنياه ، قال : يا أبا حازم هل لك أن تصحبنا وتصيب منا ونصيب منك ؟ قال : كلا ، قال : ولم ؟ قال : إني أخاف أن أركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا يكون لي منه نصير ، قال : يا أبا حازم ارفع إلي حاجتك ، قال : نعم ، تدخلني الجنة وتخرجني من النار ، قال : ليس ذاك إلي ، قال : فما لي حاجة سواها ، قال : يا أبا حازم فادع الله لي ، قال : نعم ، اللهم إن كان سليمان من أوليائك فيسره لخير الدنيا والآخرة ، وإن كان من أعدائك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى ، قال سليمان : قط ، قال أبو حازم : قد أكثرت وأطنبت إن كنت أهله ، وإن لم تكن أهله فما حاجتك أن ترمي عن قوس ليس لها وتر ، قال سليمان : يا أبا حازم ما تقول فيما نحن فيه ؟ قال : أوتعفيني يا أمير المؤمنين ؟ قال : بل نصيحة تلقيها إلي ، قال : إن آباءك غصبوا الناس هذا الأمر فأخذوه عنوة بالسيف من غير مشورة ولا اجتماع من الناس ، وقد قتلوا فيه مقتلة عظيمة وارتحلوا ، فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم ، فقال رجل من جلسائه : بئس ما قلت ، قال أبو حازم : كذبت إن الله تعالى أخذ على العلماء الميثاق : ( لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) ، قال : يا أبا حازم أوصني ، قال : نعم ، سوف أوصيك وأوجز ، نزه الله تعالى وعظمه أن يراك حيث نهاك ، أو يفقدك حيث أمرك ، ثم قام فلما ولى ، قال : يا أبا حازم ، هذه مائة دينار أنفقها ولك عندي أمثالها كثير ، فرمى بها وقال : والله ما أرضاها لك فكيف أرضاها [ ص: 236 ] لنفسي . إني أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلا ، وردي عليك بذلا ، إن موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام لما ورد ماء مدين ، قال : ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) ، فسأل موسى عليه السلام ربه عز وجل ولم يسأل الناس ، ففطنت الجاريتان ولم تفطن الرعاة لما فطنتا إليه ، فأتيا أباهما وهو شعيب عليه السلام فأخبرتاه خبره ، قال شعيب : ينبغي أن يكون هذا جائعا ، ثم قال لإحداهما اذهبي ادعيه ، فلما أتته أعظمته وغطت وجهها ، ثم قالت : ( إن أبي يدعوك ليجزيك ) ، فلما قالت : ( ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) ، كره موسى عليه السلام ذلك وأراد أن لا يتبعها ولم يجد بدا من أن يتبعها ؛ لأنه كان في أرض مسبعة وخوف ، فخرج معها وكانت امرأة ذات عجز فكانت الرياح تضرب ثوبها فتصف لموسى عليه السلام عجزها فيغض مرة ويعرض أخرى ، فقال : يا أمة الله كوني خلفي ، فدخل موسى إلى شعيب عليهما السلام والعشاء مهيأ ، فقال : كل ، فقال موسى عليه السلام : لا ، قال شعيب : ألست جائعا ؟ قال : بلى ولكني من أهل بيت لا يبيعون شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا ، أخشى أن يكون هذا أجر ما سقيت لهما ، قال شعيب عليه السلام : لا يا شاب ولكن هذا عادتي وعادة آبائي قرى الضيف وإطعام الطعام ، قال : فجلس موسى عليه السلام فأكل ، فإن كانت هذه المائة دينار عوضا عما حدثتك فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحل منه ، وإن كان من مال المسلمين فلي فيها شركاء ونظراء إن وازيتهم وإلا فلا حاجة لي فيها ، إن بني إسرائيل لم يزالوا على الهدى والتقى حيث كانت أمراؤهم يأتون إلى علمائهم رغبة في علمهم ، فلما نكسوا ونفسوا وسقطوا من عين الله تعالى وآمنوا بالجبت والطاغوت ، كان علماؤهم يأتون إلى أمرائهم ويشاركونهم في دنياهم وشركوا معهم في قتلهم ، قال ابن شهاب : يا أبا حازم إياي تعني ، أو بي تعرض ؟ قال :ما إياك اعتمدت ولكن هو ما تسمع ، قال سليمان : يا ابن شهاب [ ص: 237 ] تعرفه ؟ قال : نعم ، جاري منذ ثلاثين سنة ما كلمته كلمة قط ، قال أبو حازم : إنك نسيت الله فنسيتني ولو أحببت الله تعالى لأحببتني ، قال ابن شهاب : يا أبا حازم تشتمني ، قال سليمان : ما شتمك ولكن شتمتك نفسك ، أما علمت أن للجار على الجار حقا كحق القرابة ؟ فلما ذهب أبو حازم ، قال رجل من جلساء سليمان : يا أمير المؤمنين تحب أن يكون الناس كلهم مثل أبي حازم ؟ قال : لا .

              حدثنا أبو بكر بن مالك ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي ، ثنا يحيى بن عبد الرحمن ، ثنا زمعة بن صالح ، قال : كتب بعض بني أمية إلى أبي حازم يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه ، فكتب إليه : أما بعد ، جاءني كتابك تعزم علي إلا رفعت إليك حوائجي ، وهيهات رفعت حوائجي إلى من لا يختزن الحوائج ، وهو ربي عز وجل فما أعطاني منها قبلت ، وما أمسك عني قنعت .

              حدثنا أبي رحمه الله ، ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، ثنا سفيان بن وكيع ، وحدثنا أبو محمد بن حيان ، ثنا أحمد بن محمد بن سعيد ، ثنا أحمد بن عبيدة ، قالا : ثنا سفيان بن عيينة ، قال : كتب أمير المؤمنين إلى أبي حازم ، وقال إبراهيم : كتب سليمان إلى أبي حازم : ارفع إلي حاجتك ، قال : هيهات ، رفعت حاجتي إلى من لا يختزن الحوائج ، فما أعطاني منها قنعت ، وما أمسك عني منها رضيت .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية