الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : اختلفوا في أن المراد بالصدقة المذكورة في هذه الآية : التطوع ، أو الواجب ، أو مجموعهما .

                                                                                                                                                                                                                                            فالقول الأول ، وهو قول الأكثرين : أن المراد منه صدقة التطوع ، قالوا : لأن الإخفاء في صدقة التطوع أفضل ، والإظهار في الزكاة أفضل ، وفيه بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : في أن الأفضل في إعطاء صدقة التطوع إخفاؤه أو إظهاره . فلنذكر أولا الوجوه الدالة على أن إخفاءه أفضل :

                                                                                                                                                                                                                                            فالأول : أنها تكون أبعد عن الرياء والسمعة ، قال صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان " والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة ، والمعطي في ملأ من الناس يطلب الرياء ، والإخفاء والسكوت هو المخلص منهما ، وقد بالغ قوم في قصد الإخفاء ، واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ ، فكان بعضهم يلقيه في يد أعمى ، وبعضهم يلقيه في طريق الفقير ، وفي موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطي ، وبعضهم كان يشده في أثواب الفقير وهو نائم ، وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره ، والمقصود عن الكل الاحتراز عن الرياء والسمعة والمنة ؛ لأن الفقير إذا عرف المعطي فقد حصل الرياء والمنة معا ، وليس في معرفة المتوسط الرياء .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه إذا أخفى صدقته لم يحصل له بين الناس شهرة ومدح وتعظيم ، فكان ذلك يشق على النفس ، فوجب أن يكون ذلك أكثر ثوابا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصدقة جهد المقل إلى الفقير في سر " وقال أيضا : " إن العبد ليعمل عملا في السر يكتبه الله له سرا فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية ، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية ، وكتب في الرياء " وفي الحديث المشهور : " سبعة يظلهم الله تعالى يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله : أحدهم رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطاه يمينه " وقال صلى الله عليه وسلم : " صدقة السر تطفئ غضب الرب " .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن الإظهار يوجب إلحاق الضرر بالآخذ من وجوه ، والإخفاء لا يتضمن ذلك ، فوجب أن يكون الإخفاء أولى ، وبيان تلك المضار من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن في الإظهار هتك عرض الفقير وإظهار فقره ، وربما لا يرضى الفقير بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن في الإظهار إخراج الفقير من هيئة التعفف وعدم السؤال ، والله تعالى مدح ذلك في الآية التي تأتي بعد هذه الآية ، وهو قوله تعالى : ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا ) [البقرة : 273] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن الناس ربما أنكروا على الفقير أخذ تلك الصدقة ، ويظنون أنه أخذها مع الاستغناء عنها ، فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : أن في إظهار الإعطاء إذلالا للآخذ وإهانة له ، وإزلال المؤمن غير جائز .

                                                                                                                                                                                                                                            والخامس : أن الصدقة جارية مجرى الهدية ، وقال عليه الصلاة والسلام : " من أهدي إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها " وربما لا يدفع الفقير من تلك الصدقة شيئا إلى [ ص: 65 ] شركائه الحاضرين فيقع الفقير بسبب إظهار تلك الصدقة في فعل ما لا ينبغي فهذه جملة الوجوه الدالة على أن إخفاء صدقة التطوع أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الوجه في جواز إظهار الصدقة ، فهو أن الإنسان إذا علم أنه إذا أظهرها صار ذلك سببا لاقتداء الخلق به في إعطاء الصدقات ، فينتفع الفقراء بها فلا يمتنع والحال هذه أن يكون الإظهار أفضل , وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " السر أفضل من العلانية , والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء به " قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي : الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة فههنا الشيطان يورد عليه ذكر رؤية الخلق ، والقلب ينكر ذلك ويدفعه ، فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فضوعف العمل سبعين ضعفا على العلانية ، ثم إن لله عبادا راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنواع هدايته فتراكمت على قلوبهم أنوار المعرفة ، وذهبت عنهم وساوس النفس ، لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله تعالى ؛ فإذا عمل عملا علانية لم يحتج أن يجاهد ، لأن شهوة النفس قد بطلت ، ومنازعة النفس قد اضمحلت ، فإذا أعلن به فإنما يريد به أن يقتدي به غيره فهذا عبد كملت ذاته فسعى في تكميل غيره ليكون تاما وفوق التمام ، ألا ترى أن الله تعالى أثنى على قوم في تنزيله وسماهم عباد الرحمن ، وأوجب لهم أعلى الدرجات في الجنة ، فقال : ( أولئك يجزون الغرفة ) [الفرقان : 75] ثم ذكر من الخصال التي طلبوها بالدعاء أن قالوا ( واجعلنا للمتقين إماما ) [الفرقان : 74] ومدح أمة موسى عليه السلام فقال : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [الأعراف : 159] ومدح أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) [آل عمران : 110] ثم أبهم المنكر فقال : ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [الأعراف : 181] فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يهتدون في الذهاب إلى الله .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : إن كان الأمر على ما ذكرتم فلم رجح الإخفاء على الإظهار في قوله : ( وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب من وجهين : الأول : لا نسلم أن قوله : ( فهو خير لكم ) يفيد الترجيح فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن إعطاء الصدقة حال الإخفاء خير من الخيرات ، وطاعة من جملة الطاعات ، فيكون المراد منه بيان كونه في نفسه خيرا وطاعة ، لا أن المقصود منه بيان الترجيح .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : سلمنا أن المراد منه الترجيح ، لكن المراد من الآية أنه إذا كانت الحال واحدة في الإبداء والإخفاء ، فالأفضل هو الإخفاء ، فأما إذا حصل في الإبداء أمر آخر لم يبعد ترجيح الإبداء على الإخفاء .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية