الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 166 ] ثم قال تعالى : ( يرونهم مثليهم رأي العين ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ نافع وأبان عن عاصم " ترونهم " بالتاء المنقطة من فوق ، والباقون بالياء فمن قرأ بالتاء فلأن ما قبله خطاب لليهود ، والمعنى ترون أيها اليهود المسلمين مثلي ما كانوا ، أو مثلي الفئة الكافرة ، أو تكون الآية خطابا مع مشركي قريش والمعنى : ترون يا مشركي قريش المسلمون مثلي فئتكم الكافرة ، ومن قرأ بالياء فللمغالبة التي جاءت بعد الخطاب ، وهو قوله ( فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم ) فقوله ( يرونهم ) يعود إلى الإخبار عن إحدى الفئتين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اعلم أنه قد تقدم في هذه الآية ذكر الفئة الكافرة وذكر الفئة المسلمة فقوله ( يرونهم مثليهم ) يحتمل أن يكون الراءون هم الفئة الكافرة ، والمرئيون هم الفئة المسلمة ، ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك فهذان احتمالان ، وأيضا فقوله ( مثليهم ) يحتمل أن يكون المراد مثلي الرائين وأن يكون المراد مثلي المرئيين ، فإذن هذه الآية تحتمل وجوها أربعة :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يكون المراد أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين .

                                                                                                                                                                                                                                            والاحتمال الثاني : أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا وعشرين ، والحكمة في ذلك أنه تعالى كثر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : هذا متناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال ( ويقللكم في أعينهم ) [ الأنفال : 44 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            فالجواب : أنه كان التقليل والتكثير في حالين مختلفين ، فقللوا أولا في أعينهم حتى اجترءوا عليهم ، فلما تلاقوا كثرهم الله في أعينهم حتى صاروا مغلوبين ، ثم إن تقليلهم في أول الأمر ، وتكثيرهم في آخر الأمر ، أبلغ في القدرة وإظهار الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            والاحتمال الثالث : أن الرائين هم المسلمون ، والمرئيين هم المشركون ، فالمسلمون رأوا المشركين مثلي المسلمين ستمائة وأزيد ، والسبب فيه أن الله تعالى أمر المسلم الواحد بمقاومة الكافرين ، قال الله تعالى : ( فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) [ الأنفال : 66 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : كيف يرونهم مثليهم رأي العين ، وكانوا ثلاثة أمثالهم ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : أن الله تعالى إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم ، وذلك لأنه تعالى قال : ( فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) فأظهر ذلك العدد من المشركين للمؤمنين تقوية لقلوبهم ، وإزالة للخوف عن صدورهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والاحتمال الرابع : أن الرائين هم المسلمون ، وأنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين ، فهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد ، لأن هذا يوجب نصرة المشركين بإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين ، والآية تنافي ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وفي الآية احتمال خامس ، وهو أنا أول الآية قد بينا أن الخطاب مع اليهود ، فيكون المراد ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : كيف رأوهم مثليهم وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ؟ فقد سبق الجواب عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 167 ] بقي من مباحث هذا الموضع أمران :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئيا ، والاحتمال الثالث يقتضي أن ما وجد وحضر لم يصر مرئيا ، أما الأول : فهو محال عقلا ; لأن المعدوم لا يرى ، فلا جرم وجب حمل الرؤية على الظن القوي ، وأما الثاني : فهو جائز عند أصحابنا ; لأن عندنا مع حصول الشرائط وصحة الحاسد يكون الإدراك جائزا لا واجبا ، وكان ذلك الزمان زمان ظهور المعجزات وخوارق العادات ، فلم يبعد أن يقال : إنه حصل ذلك المعجز ، وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند اجتماع الشرائط وسلامة الحاسد ، فلهذا المعنى اعتذر القاضي عن هذا الموضع من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن عند الاشتغال بالمحاربة والمقاتلة قد لا يتفرغ الإنسان لأن يدير حدقته حول العسكر وينظر إليهم على سبيل التأمل التام ، فلا جرم يرى البعض دون البعض .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : لعله يحدث عند المحاربة من الغبار ما يصير مانعا عن إدراك البعض .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : يجوز أن يقال : إنه تعالى خلق في الهواء ما صار مانعا عن إدراك ثلث العسكر ، وكل ذلك محتمل .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : اللفظ وإن احتمل أن يكون الراءون هم المشركون ، وأن يكون هم المسلمون فأي الاحتمالين أظهر ؟

                                                                                                                                                                                                                                            فقيل : إن كون المشرك رائيا أولى ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول ، فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلا ، وأبعدهما مفعولا أولى من العكس ، وأقرب المذكورين هو قوله ( وأخرى كافرة ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن مقدمة الآية وهو قوله ( قد كان لكم آية ) خطاب مع الكفار ، فقراءة نافع بالتاء يكون خطابا مع أولئك الكفار والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثليهم ، فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية للكفار ، حيث قال : ( قد كان لكم آية في فئتين التقتا ) فوجب أن تكون هذه الحالة مما يشاهدها الكافر حتى تكون حجة عليه ، أما لو كانت هذه الحالة حاصلة للمؤمن لم يصح جعلها حجة للكافر والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            واحتج من قال : الراءون هم المسلمون ، وذلك لأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤية ما ليس بموجود وهو محال ، ولو كان الراءون هم المؤمنون لزم أن لا يرى ما هو موجود وهذا ليس بمحال ، وكان ذلك أولى والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( رأي العين ) يقال : رأيته رأيا ورؤية ، ورأيت في المنام رؤيا حسنة ، فالرؤية مختص بالمنام ، ويقول : هو مني مرأى العين حيث يقع عليه بصري ، فقوله ( رأي العين ) يجوز أن ينتصب على المصدر ، ويجوز أن يكون ظرفا للمكان ، كما تقول : ترونهم أمامكم ، ومثله : هو مني مناط العنق ومزجر الكلب .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( والله يؤيد بنصره من يشاء ) نصر الله المسلمين على وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            نصر بالغلبة كنصر يوم بدر ، ونصر بالحجة ، فلهذا المعنى لو قدرنا أنه هزم قوم من المؤمنين لجاز أن يقال : هم المنصورون لأنهم هم المنصورون بالحجة ، وبالعاقبة الحميدة ، والمقصود من الآية أن النصر والظفر إنما يحصلان بتأييد الله ونصره ، لا بكثرة العدد والشوكة والسلاح .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( إن في ذلك لعبرة ) والعبرة الاعتبار وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم وأصله [ ص: 168 ] من العبور وهو النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر ، ومنه العبارة وهي الكلام الذي يعبر بالمعنى إلى المخاطب ، وعبارة الرؤيا من ذلك ، لأنها تعبير لها ، وقوله ( لأولي الأبصار ) أي لأولي العقول ، كما يقال : لفلان بصر بهذا الأمر ، أي علم ومعرفة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية