الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وإن كانت ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : ( إن ) المكسورة الخفيفة ، معناها على أربعة أوجه : جزاء ، ومخففة من الثقيلة ، وجحد ، وزائدة ، أما الجزاء فهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى ، فالمستلزم هو الشرط ، واللازم هو الجزاء ، كقولك : إن جئتني أكرمتك ، وأما الثانية : وهي المخففة من الثقيلة فهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمعنى ( إن ) المشددة كقولك : إن زيدا لقائم ، قال الله تعالى : ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) [ الطارق : 4 ] وقال : ( إن كان وعد ربنا لمفعولا ) [ الإسراء : 108 ] ومثله في القرآن كثير ، والغرض في تخفيفها إيلاؤها ما لم يجز أن يليها من الفعل ، وإنما لزمت اللام هذه المخففة للعوض عما حذف منها ، والفرق بينها وبين التي للجحد في قوله تعالى : ( إن الكافرون إلا في غرور ) [ الملك : 20 ] وقوله : ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) [ الأنعام : 50 ] إذ كانت كل واحدة منهما يليها الاسم والفعل جميعا كما وصفنا ، وأما الثالثة : وهي التي للجحد ، كقوله : ( إن الحكم إلا لله ) [ الأنعام : 57 ] وقال : ( إن تتبعون إلا الظن ) [ الأنعام : 148 ] وقال : ( ولئن زالتا إن أمسكهما ) [ فاطر : 41 ] أي : ما يمسكهما ، وأما الرابعة وهي الزائدة فكقولك : ما إن رأيت زيدا .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : ( إن ) في قوله : ( وإن كانت لكبيرة ) هي المخففة التي تلزمها اللام ، والغرض منها توكيد المعنى في الجملة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الضمير في قوله : ( كانت ) إلى أي شيء يعود ؟ فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه يعود إلى القبلة ؛ لأنه لا بد له من مذكور سابق وما ذاك إلا القبلة في قوله : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه عائد إلى ما دل عليه الكلام السابق وهي مفارقة القبلة ، والتأنيث للتولية ؛ لأنه قال : ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) ثم قال عطفا على هذا : ( وإن كانت لكبيرة ) أي : وإن كانت التولية ؛ لأن قوله : ( ما ولاهم ) يدل على التولية ، كما قيل في قوله تعالى : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) [ الأنعام : 121 ] ويحتمل أن يكون المعنى : وإن كانت هذه الفعلة ، نظيره قوله فبها ونعمت ، واعلم أن هذا البحث متفرع على المسألة التي قدمناها ، وهي أن الامتحان والابتلاء حصل بنفس القبلة ، أو بتحويل القبلة ، وقد بينا أن الثاني أولى؛ لأن الإشكال الحاصل بسبب النسخ أقوى من الإشكال الحاصل بسبب تلك الجهات ، ولهذا وصفه الله تعالى بالكبيرة في قوله : ( وإن كانت لكبيرة ) .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( لكبيرة ) فالمعنى : لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله : ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم ) [ ص: 97 ] ( الكهف : 5 ) أي : عظمت الفرية بذلك ، وقال الله تعالى : ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) [ النور : 16 ] وقال : ( إن ذلكم كان عند الله عظيما ) [ الأحزاب : 53 ] ثم إنا إن قلنا : الامتحان وقع بنفس القبلة ، قلنا : إن تركها ثقيل عليهم ؛ لأن ذلك يقتضي ترك الإلف والعادة ، والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف ، وإن قلنا : الامتحان وقع بتحريف القبلة ، قلنا : إنها لثقيلة من حيث إن الإنسان لا يمكنه أن يعرف أن ذلك حق إلا بعد أن عرف مسألة النسخ وتخلص عما فيها من السؤالات ، وذلك أمر ثقيل صعب إلا على من هداه الله تعالى حتى عرف أنه لا يستنكر نقل القبلة من جهة إلى جهة ، كما لا يستنكر نقله إياهم من حال إلى حال في الصحة والسقم والغنى والفقر ، فمن اهتدى لهذا النظر ازداد بصره ، ومن سفه واتبع الهوى وظواهر الأمور ثقلت عليه هذه المسألة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( إلا على الذين هدى الله ) فاحتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة خلق الأعمال ، فقالوا : المراد من الهداية إما الدعوة أو وضع الدلالة أو خلق المعرفة ، والوجهان الأولان هاهنا باطلان ، وذلك لأنه تعالى حكم بكونها ثقيلة على الكل إلا على الذين هدى الله ، فوجب أن يقال : إن الذي هداه الله لا يثقل ذلك عليه ، والهداية بمعنى الدعوة ، ووضع الدلائل عامة في حق الكل ، فوجب أن لا يثقل ذلك على أحد من الكفار ، فلما ثقل عليهم علمنا أن المراد من الهداية هاهنا خلق المعرفة والعلم وهو المطلوب ، قالت المعتزلة : الجواب عنه من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن الله تعالى ذكرهم على طريق المدح فخصهم بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أراد به الاهتداء .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنهم الذين انتفعوا بهدى الله فغيرهم كأنه لم يعتد بهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الكل : أنه ترك للظاهر ، فيكون على خلاف الأصل ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية