الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : علة الربا هي الكيل والوزن في جنس واحد أو جنسين فقط ، فإذا كان الصنف مكيلا بيع بنوعه كيلا بمثله يدا بيد ، ولم يحل فيه التفاضل ولا النسيئة - وجاز بيعه بنوع آخر من المكيلات متفاضلا يدا بيد ، ولا يجوز فيه النسيئة - وإذا كان موزونا جاز بيعه بنوعه وزنا بوزن نقدا ، ولا يجوز فيه التفاضل ولا النسيئة ، وجاز بيعه بنوع آخر من الموزونات متفاضلا يدا بيد ، ولا يجوز فيه النسيئة إلا في الذهب ، والفضة ، خاصة فإنه يجوز أن يباع بهما سائر الموزونات نسيئة .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 416 ] وجائز بيع المكيل بالموزون متفاضلا ومتماثلا نقدا ونسيئة ، كاللحم بالبر ، أو كالعسل بالتمر ، أو الزبيب بالشعير ، وهكذا في كل شيء - وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .

                                                                                                                                                                                          وقد رغب بعض المتأخرين منهم عن هذه العلة بسبب انتقاضها عليهم في الذهب والفضة بسائر الموزونات ، فلجأ إلى أن قال : علة الربا هي وجود الكيل ، أو الوزن فيما يتعين ، فما زادونا بهذا إلا جنونا وكذبا بدعواهم أن الدنانير ، والدراهم : لا تتعين ، وهذه مكابرة العيان .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فإن علة الذهب والفضة عندهم تتعين ، وهم يجيزون تسليمه فيما يوزن ، فلم ينتفعوا بهذه الزيادة السخيفة في إزالة تناقضهم .

                                                                                                                                                                                          ثم أتوا بتخاليط تشبه ما يأتي به من بغى لفساد عقله ، قد تقصيناها في هذا المكان ، إلا أن منها مخالفتهم السنة المتفق عليها من كل من يرى الربا في غير النسيئة ، فأجازوا التمرة بالتمرتين يدا بيد ، ويلزمهم أن يجيزوا تسليم ثلاث حبات من قمح في حبتين من تمر ، وهذا خروج عن الإجماع المتيقن .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : واحتجوا لقولهم هذا بما رويناه من طريق مسلم أنا ابن قعنب عن سليمان - يعني ابن بلال - عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث أن أبا هريرة ، وأبا سعيد حدثاه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال : لا ، والله يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تفعلوا ، ولكن مثلا بمثل ، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان } فاحتجوا بهذه اللفظة ، وهي قول " وكذلك الميزان " .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 417 ] ومن طريق عبد الرزاق أنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد قال : { دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض أهله فوجد عندهم تمرا أجود من تمرهم فقال : من أين هذا ؟ فقالوا : أبدلنا صاعين بصاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلح صاعين بصاع ولا درهمين بدرهم } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يصلح درهم بدرهمين ولا صاع بصاعين } وهذان خبران صحيحان إلا أنه لا حجة لهم فيهما ، على ما نبين ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وبما رويناه من طريق وكيع أنا أبو جناب عن أبيه عن ابن عمر قال { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - عند هذه السارية وهي يومئذ جذع نخلة - : لا تبيعوا الدينار بالدينارين ، ولا الدرهم بالدرهمين ، ولا الصاع بالصاعين ، إني أخاف عليكم الرماء - والرماء الربا - زاد بعضهم : فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيب بالإبل ، قال : لا بأس إذا كان يدا بيد } .

                                                                                                                                                                                          وبما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي أنا ابن مفرج أنا إبراهيم بن أحمد بن فراس أنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري أنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا روح أنا { حيان بن عبيد الله - وكان رجل صدق - قال سألت أبا مجلز عن الصرف ؟ فقال : يدا بيد ، كان ابن عباس لا يرى به بأسا ما كان منه يدا بيد ، فأتاه أبو سعيد فقال له : ألا تتقي الله ، حتى متى يأكل الناس الربا ؟ أوما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة يدا بيد ، عينا بعين ، مثلا بمثل ، فما زاد فهو ربا ؟ ثم قال : وكذلك ما يكال ويوزن أيضا } ؟ فقال ابن عباس لأبي سعيد : جزاك الله الجنة ، ذكرتني أمرا قد كنت أنسيته ، فأنا أستغفر الله وأتوب إليه - فكان ينهى عنه بعد ذلك - .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 418 ] وهذا كل ما احتجوا به ، ولا حجة لهم في شيء منه .

                                                                                                                                                                                          أما حديث ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي سعيد فإنه رواه عن محمد بن عمرو من هو أحفظ من ابن أبي زائدة وأوثق ، فزاد فيه بيانا - : كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي أنا ابن مفرج أنا إبراهيم بن أحمد بن فراس أنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري أنا إسحاق بن راهويه أنا الفضيل بن موسى ، والنضر بن شميل ، قالا جميعا : أنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرزقنا تمرا من تمر الجمع ، فنستبدل تمرا أطيب منه ونزيد في السعر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصلح هذا لا يصلح صاعين بصاع ، ولا درهمان بدرهم ، ولا الدينار بدينارين ، ولا الدرهم بالدرهم لا فضل بينهما إلا ربا } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فقوله عليه السلام : { لا يصلح ، هذا لا يصلح صاعين بصاع } إشارة إلى التمر المذكور في الخبر ، لا يمكن غير ذلك أصلا ، بدأ عليه السلام فقال : " لا يصلح " مشيرا إلى فعلهم ، ثم ابتدأ الكلام فقال : " هذا لا يصلح صاعين بصاع " ف " هذا ، ابتداء ، و " لا يصلح صاعين بصاع " جملة في موضع خبر الابتداء وانتصب " صاعين بصاع " على التمييز ، ولا يجوز غير ذلك أصلا ; لأنه لو قال عليه السلام : لا يصلح هذا ، ثم ابتدأ الكلام بقوله : لا يصلح صاعين بصاع ، دون أن يكون في يصلح الثانية ضمير راجع إلى مذكور ، أو مشار إليه لكان لحنا لا يجوز ألبتة .

                                                                                                                                                                                          ومن الباطل المقطوع به أن يكون عليه السلام يلحن ، ولا يحل إحالة لفظ الخبر ما دام يوجد له وجه صحيح - فبطل تعلقهم بهذا الخبر . ولله تعالى الحمد .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث سعيد بن المسيب عن أبي سعيد ، وأبي هريرة ، الذي فيه { وكذلك الميزان } فإنهم جسروا ههنا على الكذب البحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قطعوا بأنه عليه السلام أراد أن يقول : لا يحل التفاضل في كل جنس من الموزونات بجنسه ، ولا النسيئة ، فاقتصر من هذا كله على أن قال " وكذلك الميزان " .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : إنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيان ، وأما بالإشكال في الدين ، والتلبس في الشريعة : فمعاذ الله من هذا ، وليس في التلبيس ، والإشكال : أكثر من أن [ ص: 419 ] يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرم كل جنس مما يكال بشيء من جنسه متفاضلا أو نسيئة ، وكل جنس مما يوزن بشيء من جنسه متفاضلا أو نسيئة ، فيقتصر من بيان ذلك علينا ، وتفصيله لنا ، على أن يقول في التمر الذي اشتري بتمر أكثر منه : لا تفعلوا ، ولكن مثلا بمثل ، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان .

                                                                                                                                                                                          وما خلق الله قط أحدا يفهم تلك الصنفين من هذا الكلام ، ولا ركب الله تعالى قط هذا الكلام على تلك الخرافتين .

                                                                                                                                                                                          ولو أن إنسانا من الناس أراد تلك الشريعتين اللتين احتجوا لهما بهذا الكلام ، فعبر عنهما بهذا الكلام ، لسخر منه ، ولما عده من يسمعه إلا ألكن اللسان ، أو ماجنا من المجان ، أو سخيفا من النوكى .

                                                                                                                                                                                          أفلا يستحيون من هذه الفضائح الموبقة عند الله تعالى ، المخزية في العاجل ، ولكنا نقول قولا نتقرب به إلى الله تعالى ، ويشهد لصحته كل ذي فهم من مخالف ومؤالف - وهو أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وكذلك الميزان } قول مجمل ، مثل قول الله تعالى : { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } نؤمن بكل ذلك ، ونطلب بيانه من نصوص أخر ، ولا نقدم بالظن الكاذب ، والدعوى الآفكة على أن نقول : أراد الله تعالى كذا وكذا ، وأراد رسوله عليه السلام معنى كذا - : لا يقتضيه ذلك اللفظ بموضوعه في اللغة ، فطلبنا ذلك - : فوجدنا حديث عبادة بن الصامت ، وأبي بكرة ، وأبي هريرة ، قد بين فيها مراده عليه السلام بقوله ههنا : " وكذلك الميزان " وهو تفسيره عليه السلام هنالك : أنه لا يحل الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن ، ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن - فقطعنا : أن هذا هو مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " وكذلك الميزان " .

                                                                                                                                                                                          وشهدنا بشهادة الله تعالى : أنه عليه السلام لو أراد غير هذا لبينه ووضحه حتى يفهمه أهل الإسلام ولم يكلنا إلى ظن أبي حنيفة ورأيه ، الذي لا رأي أسقط منه ، ولا إلى كهانة أصحابه الغثة التي حلوانهم عليها الخزية فقط ، قال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } ، { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } فسقط تمويههم بهذا الخبر - ولله تعالى الحمد .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 420 ] والعجب كل العجب من قولهم في البين الواضح من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرطب بالتمر : أنه إنما أراد التي في رءوس النخل - وليس هذا في شيء من الأخبار ; لأن ذلك خبر وهذا آخر .

                                                                                                                                                                                          ويأتون إلى مجمل لا يفهم أحد منه إلا ما فسره عليه السلام في مكان آخر ، فيزيدون فيه ويفسرونه بالباطل ، وبما لا يقتضيه لفظه عليه السلام أصلا .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة : لا يصلح صاعين بصاع ، فإنهم قالوا : هذا عموم لكل مكيل .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا خبر اختصره معمر عن يحيى بن أبي كثير ، أو وهم فيه بيقين لا إشكال فيه ، فرواه ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو ، أو وهم فيه على ما ذكرنا قبل ; لأن هذا خبر رواه عن يحيى بن أبي كثير بإسناده : الأوزاعي ، وهشام الدستوائي ، وشيبان بن فروخ - وليس هشام ، والأوزاعي ، دون معمر ، إن لم يكن هشام أحفظ منه .

                                                                                                                                                                                          فرويناه من طريق مسلم حدثني إسحاق بن منصور أنا عبيد الله بن موسى عن شيبان - ومن طريق أحمد بن شعيب أنا هشام بن أبي عمار عن يحيى بن حمزة أنا الأوزاعي - وحدثنا حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا بكر بن حماد أنا مسدد أنا بشر بن المفضل أنا هشام - هو الدستوائي - كلهم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا صاعي تمر بصاع ، ولا صاعي حنطة بصاع ، ولا درهمين بدرهم } .

                                                                                                                                                                                          قال الأوزاعي في روايته عن يحيى بن أبي كثير : حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن حدثني أبو سعيد الخدري - وهذا هو خبر محمد بن عمرو نفسه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فأسقط معمر ذكر التمر ، والحنطة .

                                                                                                                                                                                          ومن البيان الواضح على خطأ معمر الذي لا شك فيه : إيراده اللحن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر بقوله : لا يصلح صاعين بصاع - ووالله ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ، [ ص: 421 ] إلا أن يشير إلى شيء ، فيكون ضميره في " لا يصلح " لا سيما والأوزاعي يذكر سماع يحيى بن أبي كثير من أبي سلمة ، وسماع أبي سلمة من أبي سعيد ، لم يذكر ذلك معمر - وهذا لا يكدح عندنا شيئا ، إلا إذا كان خبرا واحدا اختلف فيه الرواة ، فإن رواية الذي ذكر السماع أولى ، لا سيما ممن ذكر بتدليس .

                                                                                                                                                                                          ثم لو صح لهم لفظ ابن أبي زائدة ، ومعمر ، بلا زيادة من غيرهما ، ولا بيان من سواهما ، لما كان لهم فيه حجة لوجهين - :

                                                                                                                                                                                          أحدهما - أنه ليس فيه ذكر جنس واحد ، ولا جنسين أصلا ، وهم يجيزون صاعي حنطة بصاع تمر ، وبكل ما ليسا من جنس واحد - وهذا خلاف عموم الخبر .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : فسر هذا أخبار أخر ؟ قلنا : وكذلك فسرت أخبار أخر ما أجمله معمر .

                                                                                                                                                                                          والوجه الثاني - أن يقول هذا في القرض لا في البيع ، نعم ، لا يجوز في القرض صاعان بصاع في شيء من الأشياء كلها ، وأما البيع فلا ، لأن الله تعالى يقول : { وأحل الله البيع } .

                                                                                                                                                                                          فإن ادعوا إجماعا كذبوا ; لأنهم يجيزون صاعي شعير بصاع بر ، والناس لا يجيزونه كلهم ، بل يختلفون في إجازته .

                                                                                                                                                                                          وصاعي حمص بصاع لبياء ، ولا إجماع ههنا ، فمالك لا يجيزه .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم } ؟ قلنا : صح أنه عليه السلام قال : { فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد } فإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأصناف التي سمى في الحديث الذي ذكر هذا اللفظ في آخره - ولا يحل أن ينسب إليه عليه السلام قول بظن كاذب .

                                                                                                                                                                                          ويكفي من هذا أنهم مجمعون معنا على لفظة " لا صاعين بصاع " ليست على [ ص: 422 ] عمومها ، فقالوا هم : في كل مكيل من جنس واحد ، وقلنا نحن : هو في الأصناف المنصوص عليها ، فدعوى كدعوى .

                                                                                                                                                                                          وبرهاننا نحن - : صحة النص على قولنا ، وبقي قولهم بلا برهان فبطل تعلقهم بهذا الخبر - ولله تعالى الحمد .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث ابن عمر فساقط ; لأنه عن أبي جناب - وهو يحيى بن أبي حية الكلبي - ترك الرواية عنه يحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وضعف ، وذكر بتدليس ، ثم هو عن أبيه وهو مجهول جملة - فبطل التعلق به - ثم لو صح لكان القول فيه كالقول في غيره مما ذكرنا آنفا مما خالفوا فيه عمومه .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث أبي سعيد الخدري الذي أوردنا من طريق حيان بن عبيد الله عن أبي مجلز ، فلا حجة فيه ; لأنه منقطع كما أوردنا ، لم يسمعه ، لا من أبي سعيد ، ولا من ابن عباس ، وذكر فيه : أن ابن عباس تاب ورجع عن القول بذلك - وهذا الباطل وقول من بلغه خبر لم يشهده ولا أخذه عن ثقة .

                                                                                                                                                                                          وقد روى رجوع ابن عباس : أبو الجوزاء - رواه عنه سليمان بن علي الربعي - وهو مجهول لا يدرى من هو - وروى عنه أبو الصهباء أنه كرهه .

                                                                                                                                                                                          وروى عنه طاوس ما يدل على التوقف .

                                                                                                                                                                                          وروى الثقة المختص به خلاف هذا - : كما حدثنا حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل أنا أبي هاشم أنا أبو بشر - هو جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : ما كان الربا قط في هاء وهات .

                                                                                                                                                                                          وحلف سعيد بن جبير : بالله ما رجع عنه حتى مات .

                                                                                                                                                                                          ثم هو أيضا من رواية حيان بن عبيد الله - وهو مجهول - ثم لو انسند حديث أبي مجلز المذكور لما كانت لهم فيه حجة ; لأن اللفظ الذي تعلقوا به من " وكذلك ما يكال ويوزن " ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام أبي سعيد لو صح .

                                                                                                                                                                                          وهو أيضا عنه منقطع ; لأن هذا خبر رواه : نافع ، وأبو صالح السمان ، وأبو المتوكل الناجي ، وسعيد بن المسيب ، وعقبة بن عبد الغافر ، وأبو نضرة ، [ ص: 423 ] وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وسعيد الجريري ، وعطاء بن أبي رباح ، كلهم عن أبي سعيد الخدري ، وكلهم ذكروا أنهم سمعوه منه ، وكلهم متصل الأسانيد بالثقات المعروفين إليهم ، ليس منهم أحد ذكر هذا اللفظ فيه ، وهو بين في الحديث المذكور نفسه ; لأنه لما تم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو مجلز : ثم قال فابتدأ الكلام المذكور من ذكر " وكذلك كل ما يكال ويوزن " مفصولا عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يبعد أن يكون من كلام أبي مجلز - وهو الأظهر - فبطل من كل جهة ، ولا يحل أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام بالظن الكاذب .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد ثم العجب كله من احتجاجهم فيما ليس فيه منه نص ولا دليل ولا أثر ، وخلافهم ليقين ما فيه منسوبا مبينا أنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وقد صح من غير هذا الخبر أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم { التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يدا بيد ، عينا بعين } .

                                                                                                                                                                                          فقالوا هم جهارا : نعم ، ويجوز غير عين بغير عين ، ويجوز عين بغير عين ، نعم ، يجوز تمرة بتمرتين وبأكثر ، فهل بعد هذه الفضائح فضائح ؟ أو يبقى مع هذا دين أو حياء من عار أو خوف نار - نعوذ بالله من الضلال والدمار .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ومما يبين غاية البيان : أن هذا اللفظ - نعني وكذلك ما يكال ويوزن - ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم قطعا ببرهان واضح - وهو أيضا مبطل لعلتهم بالوزن ، والكيل ، من طريق ضرورة الحس ، وبديهة العقل ، وصادق النظر ، فإن من الباطل البحت أن يكون عليه السلام يجعل علة الحرام في الربا : الوزن ، والكيل ، والتفاضل فيه ، وباعثه عز وجل يعلم ، وهو عليه السلام يدري ، وكل ذي عقل يعرف : أن حكم المبيعات يختلف في البلاد أشد اختلاف ، فما يوزن في بلدة يكال في أخرى : كالعسل ، والزيت والدقيق ، والسمن ، يباع الزيت والعسل ببغداد والكوفة وزنا ، ولا يباع شيء منها بالأندلس إلا كيلا .

                                                                                                                                                                                          ويباع السمن والدقيق في بعض البلاد كيلا ، ولا يباع عندنا إلا وزنا ، والتين يباع برية كيلا ، ولا يباع بإشبيلية وقرطبة إلا وزنا ، وكذلك سائر الأشياء .

                                                                                                                                                                                          ولا سبل إلى أن يعرف كيف كان يباع ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلا ، [ ص: 424 ] فحصل الربا لا يدرى ما هو حتى يجتنب ؟ ولا ما ليس هو فيستعمل وصار الحرام والحلال في دين الله تعالى أمشاجا مختلطين لا يعرف هذا من هذا أبدا .

                                                                                                                                                                                          وحصلت الأنواع المبيعة كلها التي يدخلون فيها الربا لا يدرون كيف يدخل الربا فيها ؟ ولا كيف يسلم منه ؟ نبرأ إلى الله تعالى من دين هذه صفته ، هيهات أين هذا القول الكاذب ؟ من قول الله تعالى الصادق { : اليوم أكملت لكم دينكم } ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { اللهم هل بلغت ؟ قالوا : اللهم نعم ، قال : اللهم اشهد } .

                                                                                                                                                                                          فإن رجعوا إلى أن يجعلوا لأهل كل بلد عادته حصل الدين لعبا إذا شاء أهل بلد أن يستحلوا الحرام ردوا كل ما كانوا يبيعونه بكيل إلى الوزن ، وما كانوا يبيعونه بوزن إلى كيل فحل لهم باختيارهم ما كان حراما أمس من التفاضل بين الكيلين ، أو بين الوزنين ما شاء الله كان ، وهذا بعينه أيضا يدخل على المالكيين ، والشافعيين ; لأنهم إذا أدخلوا الربا في المأكول كله ، أو في المدخر المقتات : سألناهم عن الأصناف المبيعة من ذلك ، وليست صنفا ، ولا صنفين ، بل هي عشرات كثيرة : بأي شيء يوجبون فيها التماثل ، أبالكيل أم بالوزن ؟ فأيا ما قالوا صاروا متحكمين بالباطل ، ولم يكونوا أولى من آخر يقول بالوزن فيما قالوا هم فيه بالكيل ، أو بالكيل فيما قالوا هم فيه بالوزن ، فأين المخلص ؟ أم كيف يبيع الناس ما أحل لهم من البيع ؟ أم كيف يجتنبون ما حرم عليهم من الربا ؟ وهذا من الخطأ الذي لا يحل على من يسره الله تعالى لنصيحة نفسه .

                                                                                                                                                                                          وذكروا في ذلك عمن تقدم ما روينا من طريق ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه سمعت عمرو بن شعيب قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري : أن لا يباع الصاع بالصاعين إذا كان مثله وإن كان يدا بيد ، فإن اختلف فلا بأس ، وإذا اختلف في الدين فلا يصلح - وكل شيء يوزن مثل ذلك كهيئة المكيال .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية