الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون

نبه في ذكر خلق السماوات والأرض على أمر يوقع الذهن على صغر قدر الأوثان [ ص: 648 ] وكل معبود من دون الله تعالى، وقوله سبحانه: "بالحق" أي: بالواجب النير، لا للعبث واللعب، بل ليدل على سلطانه، ويثبت شرائعه، ويضع الدلائل لأهلها، ويعم المنافع إلى غير ذلك مما لا يحصى عدا.

ثم أمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالخضوع لأمره، وتلاوة القرآن الذي أوحي إليه، وإقامة الصلاة، أي: إدامتها والقيام بحدودها. ثم أخبر -حكما منه- إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات وتذكر الله تعالى وتوهم الوقوف بين يديه، وأن قلبه وإخلاصه مطلع عليه مرقوب، صلحت لذلك نفسه وتذللت، وخامرها ارتقاب الله تبارك وتعالى، فاطردت لذلك في أقواله وأفعاله وانتهى عن الفحشاء والمنكر، ولا يكاد يفتر من ذلك حتى تظلله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حالة، وهذا معنى هذا الإخبار; لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون. وروي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه، فكلم في ذلك فقال: إني أقف بين يدي الله تبارك وتعالى، وحق لي هذا مع ملوك الدنيا، فكيف مع ملك الملوك ؟

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

فهذه صلاة تنهى -ولا بد- عن الفحشاء والمنكر، ومن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء، لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل، فذلك يترك صاحبها من منزلته حيث كان، فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تعالى تمادى على بعده، وعلى هذا يخرج الحديث عن ابن عباس ، وابن مسعود ، والحسن ، والأعمش ، وهو قولهم: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا ، وقد روي أن الحسن [ ص: 649 ] أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك غير صحيح السند، سمعت أبي رضي الله عنه يقول: فإذا قدرناه، ونظرنا معناه فغير جائز أن يقول: إن نفس صلاة العاصي تبعده من الله تعالى حتى كأنها معصية، وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من الله تعالى، بل تتركه في حاله ومعاصيه من الفحشاء والمنكر والبعد، فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان سبيله، فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن الله تعالى. وقيل لابن مسعود رضي الله عنه: إن فلانا كثير الصلاة، فقال: إنها لا تنفع إلا من أطاعها . وقرأ الربيع بن أنس : "إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر". وقال ابن عمر رضي الله عنهما: الصلاة هنا- القرآن، وقال حماد بن أبي سليمان ، وابن جريج ، والكلبي : إن الصلاة تنهى ما دمت فيها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذه عجمة، وأين هذا مما روى أنس بن مالك ؟ قال: كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه، فقيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن صلاته ستنهاه"، فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم أقل لكم"؟

وقوله تعالى: ولذكر الله أكبر ، قال ابن عباس ، وأبو الدرداء ، وسلمان ، وابن مسعود ، وأبو قرة رضي الله عن الصحابة أجمعين: معناه: ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه، وقيل: معناه: ولذكر الله أكبر مع المداومة على الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر، وقال ابن زيد ، وقتادة : ولذكر الله أكبر من كل شيء، وقيل لسلمان : أي الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن: ولذكر الله أكبر ، كأنه يحض عليه في هذين التأويلين الأخيرين.

[ ص: 650 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وعندي أن المعنى: ولذكر الله أكبر على الإطلاق، أي: هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك، وكذلك يفعل في غير الصلاة; لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر مراقب له، وثواب ذلك الذكر أن يذكره الله تعالى، كما في الحديث: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم . والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهي، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله تعالى، وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى، وذكر الله تعالى للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه. قال الله تبارك وتعالى: فاذكروني أذكركم ، وباقي الآية ضرب من التوعد والحث على المراقبة.

التالي السابق


الخدمات العلمية