الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا

قوله تعالى: ومن الناس الآية. قال ابن جريج : نزلت في النضر بن الحارث ، وأبي بن خلف ، وقيل: في أبي جهل بن هشام ، ثم هي بعد تتناول كل من يتصف بهذه الصفة. و "المجادلة": المحاجة، والمادة مأخوذة من "الجدل" وهو الفتل، والمعنى: "يجادل" في قدرة الله وصفاته. وكان سبب الآية كلام من ذكر في أن الله تبارك وتعالى لا يبعث الموتى، ولا يقيم الأجساد من القبور. و"الشيطان" هنا هو مغويهم من الجن، ويحتمل أن يكون الشيطان من الإنس، والإنحاء على متبعيه. و "المريد": المتجرد من الخير إلى الشر، ومنه الأمرد، وشجرة مرداء أي عارية من الورق، وصرح [ ص: 215 ] ممرد أي مملس من زجاج، وصخرة مرداء أي ملساء. والضمير في "عليه" عائد على "الشيطان"، قاله قتادة ، ويحتمل أن يعود على "المجادل". و "أنه" في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله، و "أنه" الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها، وقيل: هي مكررة للتأكيد فقط، وهو معترض بأن الشيء لا يؤكد إلا بعد تمامه وتمام "أنه" الأولى إنما هو بصلتها في قوله: "السعير"، وكذلك لا يعطف عليه، ولسيبويه في مثل هذا أنه بدل، وقيل "أنه" الثانية خبر ابتداء محذوف تقديره: فشأنه أنه يضله، وقدره أبو علي : فله أن يضله.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

ويظهر لي أن الضمير في "أنه" الأولى للشيطان، وفي الثانية لـ "من" الذي هو المتولي. وقوله: "ويهديه" بمعنى: يدله على طريق ذلك، وليست بمعنى الإرشاد على الإطلاق. وقرأ أبو عمرو : "إنه من تولاه فإنه يضله" بالكسر فيهما.

وقوله تعالى: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث الآية. هذا احتجاج على العالم بالبدأة الأولى، وضرب الله تعالى في هذه الآية مثلين إذا اعتبرهما الناظر جوز في العقل البعثة من القبور، ثم ورد خبر الشرع بوجوب ذلك ووقوعه. و "الريب": الشك، وقوله: إن كنتم شرط مضمنه التوفيق، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : "البعث" بفتح العين، وهي لغة في "البعث" عند البصريين ، وهي عند الكوفيين تخفيف "بعث".

وقوله: خلقناكم من تراب يريد آدم ، ثم سلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته، وقوله: ثم من نطفة يريد المني الذي يكون من البشر، و "النطفة" تقع على قليل الماء وكثيره، وقال النقاش : المراد نطفة آدم ، وقوله: ثم من علقة يريد من الدم تعود النطفة إليه في الرحم، أو المقارن للنطفة، و "العلق": الدم العبيط، وقيل: "العلق": الشديد الحمرة، فسمي الدم لذلك، وقوله: "ثم من مضغة" يريد بضعة لحم على قدر ما يمضغ، وقوله: "مخلقة" معناه: متممة البنية "وغير مخلقة" غير متممة، أي التي تسقط، قاله مجاهد ، وقتادة ، والشعبي ، وأبو العالية ، فاللفظة بناء مبالغة من "خلق"، ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل منها مختص بخلق حسن، في جملته تضعيف الفعل؛ لأن فيه خلقا كثيرة، وقرأ ابن أبي عبلة : "مخلقة" بالنصب "وغير" بالنصب في الراء.

[ ص: 216 ] ويتصل بهذا الموضع من الفقه أن العلماء اختلفوا في أم الولد إذا أسقطت بضعة لم تصور، هل تكون أم ولد بذلك؟ فقال مالك ، والأوزاعي ، وغيرهما: هي أم ولد بالمضغة إذا علم أنها مضغة الولد، وقال الشافعي ، وأبو حنيفة : حتى يتبين فيه خلق ولو عضو واحد.

وقوله: لنبين لكم ، قالت فرقة: معناه: لنبين أمر البعث، فهو اعتراض بين الكلامين، وقرأت هذه الفرقة بالرفع في "نقر"، المعنى: ونحن نقر، وهي قراءة الجمهور. وقالت فرقة: "لنبين لكم" معناه: تكون المضغة غير مخلقة وطرح النساء إياها، كذلك نبين للناس أن المناقل في الرحم هي هكذا، وقرأت هذه الفرقة: "ونقر" بالنصب، وكذلك قرأت: "نخرجكم" بالنصب، وهي رواية المفضل عن عاصم ، وحكى أبو عمرو الداني أن رواية المفضل هذه هي بالياء في "يقر" "ويخرجكم"، والرفع على هذا التأويل شائع، ولا يجوز النصب على التأويل الأول. وقرأ ابن وثاب : "ما نشاء" بكسر النون. و "الأجل المسمى" هو مختلف بحسب جنين جنين، فثم من يسقط، وثم من يكمل أمره ويخرج حيا.

واختلف الناس في "الأشد" من ثمانية عشر، إلى ثلاثين، إلى اثنين وثلاثين، إلى ستة وثلاثين، إلى أربعين، إلى خمسة وأربعين، واللفظ تقال باشتراك، فأشد الإنسان على العموم غير أشد اليتيم الذي هو الاحتلام. و "الأشد" في الآية يحتمل المعنيين، والرد إلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانه واختلال قوته حتى لا يقدر على إقامة الطاعات، واختلال عقله حتى لا يقدر على إقامة ما يلزمه من المعتقدات، وهذا أبدا يلحق مع الكبر، وقد يكون أرذل العمر في قليل من السن بحسب شخص ما لحقته زمانة، وقد ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن أرذل العمر خمسة وسبعون سنة، وهذا فيه نظر، وإن صح عن علي رضي الله عنه فلا يتوجه إلا أن يريد: على الأكثر، فقد نرى كثيرا أبناء ثمانين سنة ليسوا في أرذل العمر، وقرأ الجمهور : "العمر" [ ص: 217 ] مشبعة، وقرأ نافع : "العمر" مخففة الميم، واختلف عنه.

وقوله تعالى: لكيلا يعلم أي: لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئا، فهذا مثال واحد يقضي للمعتد به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى.

التالي السابق


الخدمات العلمية