الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 38 ] قوله عز وجل:

وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين

قرأ أبو عمرو ، وأبي بن كعب ، وأبو رجاء ، وأبو جعفر ، وشيبة : "ووعدنا" ، وقد تقدم في البقرة، وأخبر الله تعالى موسى عليه السلام بأن يتهيأ لمناجاته ثلاثين ليلة، ثم زاده في الأجل بعد ذلك عشر ليال، فذكر أن موسى عليه السلام أعلم بني إسرائيل بمغيبه ثلاثين ليلة، فلما زاده العشر في حال مغيبه دون أن تعلم بنو إسرائيل ذلك وجست نفوسهم للزيادة على ما أخبرهم به، فقال لهم السامري: إن موسى قد هلك وليس براجع وأضلهم بالعجل فاتبعوه، قاله كله ابن جريج . وقيل: بل أخبرهم بمغيبه أربعين، وكذلك أعلمه الله تبارك وتعالى، وهو المراد بهذه الآية، قاله الحسن، وهو مثل قوله تعالى: فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ، وأنهم عدوا الأيام والليالي، فلما تم أربعون من الدهر قالوا: قد أخلف موسى فضلوا، قال مجاهد : إن الثلاثين هي شهر ذي القعدة، وإن العشر هي عشر ذي الحجة، وقاله ابن عباس ومسروق ، وروي أن الثلاثين إنما وعد بأن يصومها ويتهيأ فيها للمناجاة ويستعد، وأن مدة المناجاة هي العشر، وقيل: بل مدة المناجاة الأربعون، وإقبال موسى على الأمر والتزامه يحسن لفظ المواعدة، وحيث ورد أن المواعدة أربعون ليلة فذلك إخبار بجملة الأمر، وهو في هذه الآية إخبار بتفصيله كيف وقع، و"أربعين" في هذه الآية وما بعدها في موضع الحال، ويصح أن تكون "أربعين" ظرفا من حيث هي عدد أزمنة، وفي مصحف أبي بن كعب "وتممناها" بغير ألف وتشديد الميم، وذكر الزجاج عن بعضهم قال: لما صام ثلاثين يوما أنكر خلوف فمه فاستاك بعود خروب، فقالت الملائكة: إنا كنا نستنشق من [ ص: 39 ] فيك رائحة المسك، فأفسدته بالسواك فزيدت عليه عشر ليال، و"ثلاثين" نصب على تقدير: أجلناه ثلاثين، وليست منتصبة على الظرف; لأن المواعدة لم تقع في الثلاثين، ثم ردد الأمر بقوله سبحانه: فتم ميقات ربه أربعين ليلة قيل: ليبين أن العشر لم تكن ساعات، وبالجملة تأكيد وإيضاح.

وقوله تعالى: وقال موسى لأخيه الآية، المعنى: وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها، و"اخلفني" معناه: كن خليفتي، وهذا استخلاف في حياة كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو موته ولا يقتضي أنه متماد بعد وفاة، فينحل -على هذا- ما تعلق به الإمامية في قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليا بقوله: "أنت مني كهارون من موسى" ، وقال موسى: اخلفني فيترتب على هذا أن عليا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه يحل هذا القياس.

وأمره في هذه الآية بالإصلاح، ثم من الطرق الأخر في ألا يتبع سبيل مفسد، قال ابن جريج : كان من الإصلاح أن يزجر السامري ويغير عليه.

ثم أخبر الله تبارك وتعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء إلى الموضع الذي حدد له، وفي الوقت الذي عين له، وكلمه ربه قال تمنيا منه: رب أرني أنظر إليك ، وقرأ الجمهور: "أرني" بكسر الراء، وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير : "أرني" بسكون الراء.

والمعنى في قوله تعالى: كلمه أي: خلق له إدراكا سمع به الكلام القائم بالذات القديم الذي هو صفة ذات، وقال ابن عباس ، وابن جبير : أدنى الله تبارك وتعالى موسى عليه السلام حتى سمع صريف الأقلام في اللوح، وكلام الله عز وجل لا يشبه [ ص: 40 ] شيئا من الكلام الذي للمخلوقين ولا في جهة من الجهات، وكما هو موجود لا كالموجودات، ومعلوم لا كالمعلومات، كذلك كلامه لا يشبه الكلام الذي فيه علامات الحدوث، والواو عاطفة "كلمه" على "جاء"، ويحتمل أن تكون واو الحال، والأول أبين. وقال وهب بن منبه : كلم الله موسى في ألف مقام، كان يرى نورا على وجهه ثلاثة أيام إثر كل مقام، وما قرب موسى النساء منذ كلمه الله تعالى، وجواب "لما" في قوله تعالى: "قال"، والمعنى أنه لما كلمه وخصه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشوق إلى ذلك، فسأل ربه أن يريه نفسه، قاله السدي ، وأبو بكر الهذلي ، وقال الربيع: قربناه نجيا حتى سمع صريف الأقلام.

ورؤية الله عز وجل عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلا، لأنه من حيث هو موجود تصح رؤيته، قالوا: لأن الرؤية للشيء لا تتعلق بصفة من صفاته أكثر من الوجود، إلا أن الشريعة قررت رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة نصا، ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر من الشرع، فموسى عليه السلام لم يسأل ربه محالا وإنما سأل جائزا.

وقوله تعالى: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل الآية. ليس بجواب من سأل محالا، وقد قال تبارك وتعالى لنوح: فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ، فلو سأل موسى محالا لكان في الكلام زجر ما وتبيين، وقوله عز وجل: لن تراني نص من الله تعالى على منعه الرؤية في الدنيا، و"لن" تنفي الفعل المستقبل، ولو بقينا مع هذا النفي بمجرده لقضينا أنه لا يراه موسى أبدا ولا في الآخرة، لكن ورد من جهة أخرى بالحديث المتواتر أن أهل الإيمان يرون الله تعالى يوم القيامة، فموسى عليه السلام أحرى برؤيته، وقال مجاهد وغيره: إن الله عز وجل [ ص: 41 ] قال لموسى: لن تراني ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشد فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي فسيمكنك أنت رؤيتي.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فعلى هذا إنما جعل الله الجبل مثالا وقالت فرقة: إنما المعنى: سأتبدى لك على الجبل فإن استقر لعظمتي فسوف تراني، وروي في كيفية وقوف موسى وانتظاره الرؤية قصص طويل اختصرته لبعده وكثرة مواضع الاعتراض فيه.

التالي السابق


الخدمات العلمية