الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في حكم من ترك الصلاة

                                                                                                                                                                                        تارك الصلاة ثلاثة :

                                                                                                                                                                                        - جاحد لها.

                                                                                                                                                                                        - ومقر بها، ويقول: لا أصليها.

                                                                                                                                                                                        - ومقر بها ويقول: أصلي، ولا يفعل.

                                                                                                                                                                                        فحكم الأولين القتل ، واختلف في الثالث إذا لم يصل; فقيل: يقتل. وقال ابن حبيب : يبالغ في عقوبته حتى تظهر توبته. ولم يجعل في ذلك قتلا. وإذا كان الحكم القتل فإنه يختلف في الاستتابة، وفي الوقت الذي يقتل فيه.

                                                                                                                                                                                        فأما الجاحد لها فقيل: يقتل مكانه. وقيل: يستتاب بثلاثة أيام.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رحمه الله-: هو مرتد، وقد اختلف في استتابة المرتد، وهل ذلك واجب أو مستحب، وهل يقتل بالحضرة أو يؤخر ثلاثة أيام؟ فحكى ابن القصار عن مالك في تأخيره ثلاثة أيام روايتين: هل ذلك واجب أو مستحب، ورأى تأخيره ثلاثة أيام واجبا، والاستتابة، وهو أن يعرض عليه الرجوع إلى الإسلام، والاعتراف بوجوبها على وجهين: واجب، ومستحسن . فمن كان يعرف أن له التوبة وأن رجوعه مقبول - كانت الاستتابة استحسانا، ومن كان يجهل ذلك - كان عليه إعلامه أن ذلك مقبول منه واجبا. فإذا أعلم مرة كانت [ ص: 413 ] الاستتابة بعد ذلك بأن يقال له: تب وارجع استحسانا ; لأنها من باب الدعوة إلى الإسلام قبل القتال ، فهي واجبة فيمن لم تبلغه الدعوة ، ومستحبة فيمن بلغته وهذا عالم بما يراد منه، وعلى ما يقتل.

                                                                                                                                                                                        والأصل في ذلك: حديث ثمامة، كان أسيرا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخره ثلاثة أيام، فكان يعرض عليه في ذلك الإسلام . والكافر مخاطب بالدخول في الإسلام الآن، عاص في تأخيره ثلاثة أيام، فأخره النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد كونه أسيرا والقدرة على قتله الآن رجاء أن ينقذه الله من النار. وإذا جاز ذلك في الكافر ابتداء جاز ذلك في المرتد; رجاء أن يهديه الله -عز وجل- ويعود إلى الإقرار بالإيمان والصلاة.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كان مقرا بالصلاة، فقال مالك في العتبية: يقال له: صل. فإن صلى وإلا قتل. وإن قال: لا أصلي. استتيب، فإن صلى وإلا قتل .

                                                                                                                                                                                        وفرق بين الموضعين. وقال أيضا: لا يؤخر إذا قال: لا أصلي، بخلاف الجاحد; لأن المقر بها مخاطب بفعلها، ولها وقت لا تؤخر عنه، والجاحد كافر مخاطب بالإيمان بها لا بالصلاة، فإن أقر بفرضها فحينئذ يخاطب بفعلها. [ ص: 414 ]

                                                                                                                                                                                        والقول إنه يستتاب أحسن; لأن كليهما مخاطب، إلا أن هذا - بالإيمان بها، وهذا بالصلاة، وكلاهما عاص في تأخير ذلك، فإذا جاز أن يؤخر هذا لحرمة القتل; رجاء أن يعود إلى الإيمان - جاز تأخير الآخر رجاء أن يتوب ويعود إلى الصلاة، ولا خلاف أن حرمة الإيمان أعظم من حرمة الصلاة، والكل حق لله -عز وجل-. ولا وجه لقول عبد الملك إذا قال: أصلي ولا يفعل- إنه يعاقب، ولا يقتل. ولا فرق بين أن يقول: لا أصلي أو أصلي ثم لا يفعل; لعدم الصلاة منهما جميعا; ولقول الله -عز وجل-: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم [التوبة: 5] يريد بالتوبة: الدخول في الإسلام، فأخبر أن القتل إنما يرفع عنهم إذا أقاموا الصلاة، وهو الفعل ليس الإقرار بها، ولقول النبي - عليه السلام -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" أخرجه " البخاري ومسلم .

                                                                                                                                                                                        وهذا الحديث طابق القرآن أنه إنما يعصمه من إراقة دمه أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة.

                                                                                                                                                                                        وعلى القول: إنه تلزم الصلاة قبل خروج الوقت; فإن المراعى الوقت الضروري، فإن كان في العصر فإذا بقي لغروب الشمس مقدار الإحرام وركعة دون سجودها - لم يعجل عليه بالقتل قبل ذلك، ولا يراعى قدر القراءة [ ص: 415 ] للاختلاف في القراءة في أول ركعة من الصلاة وهو يقرأ في الثلاث بعد، ولا قدر لسجودها على قول أشهب أن محمل الحديث: " من أدرك ركعة من الصلاة. . ." أن المراد بذلك الركوع دون السجود، ومن قال: إن الصلاة سنة كان حكمه حكم من جحدها; لأن ذلك رد لكتاب الله -عز وجل-. [ ص: 416 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية