الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب فيمن نذر إحراما بحج أو بعمرة وما حكمه

                                                                                                                                                                                        ومن المدونة: قال مالك فيمن قال: إن كلمت فلانا فأنا محرم بحج، فحنث قبل أشهر الحج: لم يلزمه حتى تأتي أشهر الحج فيحرم ، إلا أن يكون نوى أنا محرم من حين حنث; فذلك عليه وإن كان في غير أشهر الحج. وإن قال: فأنا محرم بعمرة; فأرى أن يجب عليه الإحرام حين يحنث، إلا ألا يجد من يخرج معه، ويخاف على نفسه; فلا أرى عليه شيئا حتى يجد من يصحبه، ولا يؤخر في شيء من ذلك إلى الميقات .

                                                                                                                                                                                        وقال سحنون: إذا قال; فأنا محرم; فهو محرم بنفس الحنث، وسواء في ذلك الحج أو العمرة. وإن قال: فأنا أحرم بحج أو بعمرة فحنث; لم ينعقد عليه إحرام بنفس الحنث حتى يحرم، وهو بمنزلة من قال: فأنا أصلي أو أصوم أو أعتق أو أطلق امرأتي، فإنه لا يكون ممتثلا بنفس الحنث.

                                                                                                                                                                                        وأما قوله: "محرم" ففيه إشكال; فيصح أن يريد: فقد صرت محرما، كقوله: فامرأتي طالق; أي: فقد صارت ذات طلاق، ولأن طالقا صفة لها، وللحالة التي هي بها.

                                                                                                                                                                                        ويصح أن يريد: فأنا أحرم; لأن "محرما" اسم فاعل يكون للماضي وللحال وللاستقبال، والإحرام ينعقد بالقلب من غير فعل الجارحة كالطلاق، إلا أنه يعترض من وجه آخر، وهو: أن الإحرام عبادة تفتقر إلى نية، ومن شرط [ ص: 1645 ] العبادات الصلاة والصيام أن تكون النية مقارنة للفعل أو مقاربة له، وهذا غير موجود في الحالف، وقد يمضي ليمينه السنون ثم يحنث.

                                                                                                                                                                                        وفرق مالك بين حنثه للحج والعمرة، وأمره أن يؤخر الإحرام بالحج حتى يدخل أشهر الحج احتياطا للخلاف، ولقول من قال: إنه لا يجوز أن يحرم للحج قبل أشهر الحج. فإن لم يفعل وأحرم قبل ذلك أو كانت تلك نيته; لزمه وأمره بتعجيل الإحرام للعمرة; لأن كل أيام السنة لها وقت، فأمر بالمبادرة لامتثال الطاعة، وهو فيمن قال: إن الأمر على الفور أبين، إلا أن لا يجد صحبة.

                                                                                                                                                                                        وقال سحنون: عليه أن يحرم، وإن لم يجد صحبة .

                                                                                                                                                                                        والقول الأول أحسن; للحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يحرم حيث تنبعث به راحلته" ويتوجه للذهاب، وليس من السنة أن يحرم ويقيم في أهله. ولأن عقد اليمين لم يتضمن الإحرام بالفور، وإنما ذلك مما يستحسن تعجيله; لأن [ ص: 1646 ] من حلف ليفعلن لا يجب عليه فعل ذلك عقيب يمينه .

                                                                                                                                                                                        وقد قال أبو محمد عبد الوهاب : إنما لزمه ذلك حين حنث; لأن النذور المطلقة محمولة على الفور، أو عقيب السبب الذي علق النذر به. قال: ألا ترى لو حلف ألا يكلم فلانا، ولا فعل كذا، فإنه يلزمه ذلك عقب يمينه بلا فصل، فكذلك هذا .

                                                                                                                                                                                        وهذا غير صحيح; لأن من حلف ألا يكلم فلانا تضمنت يمينه نفي الكلام، فمتى وجد منه الكلام حنث; لأنه ضد ما حلف عليه.

                                                                                                                                                                                        ومن حلف ليفعلن لا يحنث بمضي وقت لم يوجد منه فيه الفعل، وإن قال: إن كلمت فلانا فأنا أحرم يوم أكلمه فكلمه; لم يكن محرما بمضي ذلك اليوم، وهو بمنزلة من قال: فأنا أصلي أو أصوم أو أطلق زوجتي يوم أكلمه، فإن مضى ذلك اليوم; لم يجب عليه طلاق، ويؤمر بقضاء الصلاة. فإن قال: فأنا محرم يوم أكلمه; جرى الخلاف المتقدم على قول مالك وسحنون . [ ص: 1647 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية