الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    فصل في إيراد أحاديث في معنى الباب وذكر أحكام التلاوة بالأصوات

                                                                                                                                                                                                    قال أبو عبيد : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن قباث بن رزين ، عن علي بن رباح اللخمي ، عن عقبة بن عامر قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن في المسجد نتدارس القرآن ، فقال : تعلموا كتاب الله واقتنوه . قال : وحسبت أنه قال : وتغنوا به ، فوالذي نفسي بيده ، لهو أشد تفلتا من المخاض من العقل .

                                                                                                                                                                                                    وحدثنا عبد الله بن صالح ، عن موسى بن علي ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك إلا أنه قال : واقتنوه وتغنوا به ولم يشك ، وهكذا رواه أحمد والنسائي في فضائل [ ص: 61 ] القرآن ، من حديث موسى بن علي ، عن أبيه به ومن حديث عبد الله بن المبارك ، عن قباث بن رزين ، عن علي بن رباح ، عن عقبة ، وفي بعض ألفاظه : خرج علينا ونحن نقرأ القرآن فسلم علينا ، وذكر الحديث . ففيه دلالة على السلام على القارئ .

                                                                                                                                                                                                    ثم قال أبو عبيد : حدثنا أبو اليمان ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم ، عن المهاصر بن حبيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أهل القرآن ، لا توسدوا القرآن ، واتلوه حق تلاوته آناء الليل والنهار ، وتغنوه واقتنوه ، واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون وهذا مرسل .

                                                                                                                                                                                                    ثم قال أبو عبيد : قوله : تغنوه : يعني : اجعلوه غناءكم من الفقر ، ولا تعدوا الإقلال منه فقرا . وقوله : واقتنوه ، يقول : اقتنوه ، كما تقتنون الأموال : اجعلوه مالكم .

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو عبيد : حدثني هشام بن عمار ، عن يحيى بن حمزة ، عن الأوزاعي ، حدثني إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ، عن فضالة بن عبيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته .

                                                                                                                                                                                                    قال أبو عبيد : هذا الحديث بعضهم يزيد في إسناده يقول : عن إسماعيل بن عبيد الله عن مولى فضالة عن فضالة ، وهكذا رواه ابن ماجه ، عن راشد بن سعيد بن أبي راشد ، عن الوليد ، عن الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد الله عن ميسرة مولى فضالة عن فضالة عن النبي صلى الله عليه وسلم : لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن [ يجهر به ] من صاحب القينة إلى قينته . قال أبو عبيد : يعني الاستماع . وقوله في الحديث الآخر : ما أذن الله لشيء أي : ما استمع .

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا سلمة بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي مليكة ، حدثنا القاسم بن محمد ، حدثنا السائب قال : قال لي سعد : يا ابن أخي ، هل قرأت القرآن ؟ قلت : نعم . قال : غن به ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : غنوا بالقرآن ، ليس منا من لم يغن بالقرآن ، وابكوا ، فإن لم تقدروا على البكاء فتباكوا .

                                                                                                                                                                                                    وقد روى أبو داود من حديث الليث وعمرو بن دينار كلاهما عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عبيد الله بن أبي نهيك ، عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يتغن بالقرآن .

                                                                                                                                                                                                    ورواه ابن ماجه من حديث ابن أبي مليكة ، عن عبد الرحمن بن السائب ، عن سعد بن أبي [ ص: 62 ] وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا القرآن نزل بحرف ، فإذا قرأتموه فابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا ، وتغنوا به ، فمن لم يتغن به فليس منا .

                                                                                                                                                                                                    وقال أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سعيد بن حسان المخزومي ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبد الله بن أبي نهيك ، عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يتغن بالقرآن . [ قال وكيع : يعني : يستغني به ] .

                                                                                                                                                                                                    ورواه أيضا عن الحجاج وأبي النضر ، كلاهما عن الليث بن سعد ، وعن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، كلاهما عن عبد الله بن أبي مليكة به . وفي هذا الحديث كلام طويل يتعلق بسنده ليس هذا موضعه ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو داود : حدثنا عبد الأعلى بن حماد ، حدثنا عبد الجبار بن الورد ، سمعت ابن أبي مليكة ، يقول : قال عبيد الله بن أبي يزيد : مر بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته فدخلنا عليه ، فإذا رجل رث البيت ، رث الهيئة ، فانتسبنا له ، فقال : تجار كسبة ، فسمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليس منا من لم يتغن بالقرآن . قال : فقلت لابن أبي مليكة : يا أبا محمد ، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت قال : يحسنه ما استطاع . تفرد به أبو داود .

                                                                                                                                                                                                    فقد فهم من هذا أن السلف ، رضي الله عنهم ، إنما فهموا من التغني بالقرآن : إنما هو تحسين الصوت به ، وتحزينه ، كما قاله الأئمة - رحمهم الله - ويدل على ذلك - أيضا - ما رواه أبو داود حيث قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن طلحة ، عن عبد الرحمن بن عوسجة ، عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : زينوا القرآن بأصواتكم .

                                                                                                                                                                                                    وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث شعبة ، عن طلحة وهو ابن مصرف به .

                                                                                                                                                                                                    وأخرجه النسائي من طرق أخر عن طلحة وهذا إسناد جيد .

                                                                                                                                                                                                    وقد وثق النسائي ، وابن حبان عبد الرحمن بن عوسجة هذا ، ونقل الأزدي عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال : سألت عنه بالمدينة ، فلم أرهم يحمدونه . [ ص: 63 ]

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة قال : نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث : زينوا القرآن بأصواتكم . قال أبو عبيد : وإنما كره أيوب فيما نرى ، أن يتأول الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الألحان المبتدعة ، فلهذا نهاه أن يحدث به .

                                                                                                                                                                                                    قلت : ثم إن شعبة روى الحديث متوكلا على الله ، كما روي له ، ولو ترك كل حديث بتأول مبطل لترك من السنة شيء كثير ، بل قد تطرقوا إلى تأويل آيات كثيرة وحملوها على غير محاملها الشرعية المرادة ، والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

                                                                                                                                                                                                    والمراد من تحسين الصوت بالقرآن : تطريبه وتحزينه والتخشع به ، كما رواه الحافظ الكبير بقي بن مخلد ، حيث قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة . قلت : أما والله لو علمت أنك تستمع قراءتي لحبرتها لك تحبيرا . ورواه مسلم من حديث طلحة به وزاد : لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود . وسيأتي هذا في بابه حيث يذكره البخاري ، والغرض أن أبا موسى قال : لو أعلم أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا ، فدل على جواز تعاطي ذلك وتكلفه ، وقد كان أبو موسى كما قال - عليه السلام - قد أعطي صوتا حسنا كما سنذكره إن شاء الله ، مع خشية تامة ورقة أهل اليمن الموصوفة ، فدل على أن هذا من الأمور الشرعية .

                                                                                                                                                                                                    قال أبو عبيد : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة قال : كان عمر إذا رأى أبا موسى قال : ذكرنا ربنا يا أبا موسى ، فيقرأ عنده .

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو عبيد : وحدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا سليمان التيمي ، أنبئت عنه ، حدثنا أبو عثمان النهدي قال : كان أبو موسى يصلي بنا ، فلو قلت : إني لم أسمع صوت صنج قط ، ولا بربط قط ، ولا شيئا قط أحسن من صوته .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن ماجه : حدثنا العباس بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع عبد الرحمن بن سابط الجمحي يحدث عن عائشة قالت : أبطأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بعد العشاء ، ثم جئت فقال : أين كنت ؟ . قلت : كنت أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد ، قالت : فقام فقمت معه حتى استمع له ، ثم التفت إلي فقال : هذا سالم مولى أبي حذيفة ، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا . إسناد جيد .

                                                                                                                                                                                                    وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فما [ ص: 64 ] سمعت أحدا أحسن صوتا أو قال : قراءة منه . وفي بعض ألفاظه : فلما سمعته قرأ : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) [ الطور : 35 ] ، خلت أن فؤادي قد انصدع . وكان جبير لما سمع هذا بعد مشركا على دين قومه ، وإنما قدم في فداء الأسارى بعد بدر ، وناهيك بمن تؤثر قراءته في المشرك المصر على الكفر ! وكان هذا سبب هدايته ولهذا كان أحسن القراءة ما كان عن خشوع القلب ، كما قال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن ليث ، عن طاوس قال : أحسن الناس صوتا بالقرآن أخشاهم لله .

                                                                                                                                                                                                    حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، وعن الحسن بن مسلم ، عن طاوس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أحسن صوتا بالقرآن ؟ فقال : الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله .

                                                                                                                                                                                                    وقد روي هذا متصلا من وجه آخر ، فقال ابن ماجه : حدثنا بشر بن معاذ الضرير ، حدثنا عبد الله بن جعفر المديني ، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله ولكن عبد الله بن جعفر هذا - وهو والد علي بن المديني - وشيخه ضعيفان ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                    والغرض أن المطلوب شرعا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة ، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي ، فالقرآن ينزه عن هذا ويجل ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب ، وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك ، كما قال الإمام العلم أبو عبيد القاسم بن سلام ، رحمه الله :

                                                                                                                                                                                                    حدثنا نعيم بن حماد ، عن بقية بن الوليد ، عن حصين بن مالك الفزاري : سمعت شيخا يكنى أبا محمد يحدث عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين ، ويجيء قوم من بعدي يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح ، لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم .

                                                                                                                                                                                                    حدثنا يزيد ، عن شريك ، عن أبي اليقظان عثمان بن عمير ، عن زاذان أبي عمر ، عن عليم قال : كنا على سطح ومعنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . قال يزيد : لا أعلمه إلا قال : عابس الغفاري ، فرأى الناس يخرجون في الطاعون فقال : ما هؤلاء ؟ قالوا : يفرون من الطاعون ، فقال : يا طاعون خذني ، فقالوا : تتمنى الموت وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يتمنين أحدكم الموت ؟ فقال : إني أبادر خصالا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوفهن على أمته : بيع الحكم ، والاستخفاف بالدم ، وقطيعة الرحم ، وقوم يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم [ ص: 65 ] [ به ] غناء وذكر خصلتين أخريين .

                                                                                                                                                                                                    وحدثنا إبراهيم بن يعقوب ، عن ليث بن أبي سليم ، عن عثمان بن عمير ، عن زاذان ، عن عابس الغفاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أو نحوه . وحدثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن الأعمش ، عن رجل ، عن أنس بن مالك : أنه سمع رجلا يقرأ القرآن بهذه الألحان التي أحدث الناس ، فأنكر ذلك ونهى عنه .

                                                                                                                                                                                                    هذه طرق حسنة في باب الترهيب ، وهذا يدل على أنه محذور كبير ، وهو قراءة القرآن بالألحان التي يسلك بها مذاهب الغناء ، وقد نص الأئمة ، رحمهم الله ، على النهي عنه ، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفا أو ينقص حرفا ، فقد اتفق العلماء على تحريمه ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                    وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا روح ، حدثنا عبيد الله بن الأخنس ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يتغن بالقرآن .

                                                                                                                                                                                                    ثم قال : وإنما ذكرناه لأنهم اختلفوا على ابن أبي مليكة فيه ، فرواه ابن عبد الجبار بن الورد عنه عن أبي لبابة ، ورواه عمرو بن دينار والليث عنه عن أبي نهيك عن سعد ، ورواه عسل بن سفيان عنه ، عن عائشة ورواه نافع مولى ابن عمر عنه ، عن ابن الزبير .

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية